Uncategorized

مُعتقَدات أبطَلَها الشُّعراء في العصر الجاهلي بقلم الباحث حسن الحضري

مُعتقَدات أبطَلَها الشُّعراء في العصر الجاهلي بقلم الباحث حسن الحضري

 معلومٌ أن المكانة الكبيرة التي تبوَّأها الشِّعر العربي منذ نشأته؛ كان لها ما يحتِّمها ويوجبها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ت: 23هـ]: «كان الشعر عِلم قوم لم يكن لهم عِلم أصح منه»([1])، ومكانة الشِّعر عند العرب لا تنحصر في كونه سِجِلًّا رسميًّا يدوِّنون فيه أخبارهم وجميع شؤون حياتهم؛ بل كان الشعر بجانب ذلك وسيلة للنهضة والتقدم والخروج من ظلمات الجهل المجتمعي؛ فإن الشعراء في الجاهلية حملوا راية الثورة ضد العادات والأفكار الباطلة، وذلك يكشف سببًا رئيسًا من أسباب وصفِ المشركين النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالشاعر؛ فقد أراد المشركون تخويف الناس منه ومِن دعوتِه إلى تغيير دِينهم، فأرادوا أن يُشِيعوا أنه شاعر كغيره من الشعراء الذين ثاروا على بعض عادات العرب فأبطلوها؛ ومن هذه العادات الذميمة التي أبطلها الشعراء في ذلك العصر:

أولًا: التَّعشير:

 كان التعشير عادة عند العرب في الجاهلية، يفعلونها إذا أرادوا دخول مدينة فخافوا وباءها، فكانوا يقفون على بابها ويعشِّرون كما تعشِّر الحمير -أي: ينهقون- اعتقادًا منهم أن ذلك يصرف عنهم وباءها([2]).

وقد أبطل الشاعر عروة بن الورد [ت: 30ق.هـ] هذه العادة؛ حيث «خرج عروة مع أصحابه إلى مدينة خيبر؛ يمتارون منها، فخافوا وباءها، فعشَّروا جميعًا ما عدا عروة فقد أبَى أن يعشِّر، فدخلوا وامتاروا ورجعوا، فلمَّا بلغوا إلى موضِع “روضة الأجداد” في بلاد غطفان؛ ماتوا جميعًا ما عدا عروة»([3])، وكان عروة قد قال حين طلبوا منه أن يعشِّر([4]): [الطويل]

وقالوا احْبُ وانهَقْ لا تَضِيرُكَ خَيبرٌ

 وذلكَ مِن دِينِ اليهودِ ولوعُ

لَعَمري لئنْ عشَّرتُ مِن خَشيةِ الرَّدَى

 نُهاقَ الحَميرِ إنَّني لجَزوعُ

فلا وأَلَتْ تلكَ النُّفوسُ ولا أتَتْ

 على روضةِ الأجدادِ وهْيَ جَمِيعُ
 


فكيفَ وقَدْ ذَكَّيتُ واشتدَّ جانِبي

 سُلَيْمَى وعندي سامعٌ ومُطِيعُ

لسانٌ وسيفٌ صارمٌ وحفِيظةٌ

 ورَأيٌ لآراءِ الرِّجالِ صَرُوعُ

تُخَوِّفُني رَيْبَ المَنُونِ وقَدْ مضَى

 لنا سلَفٌ؛ قيسٌ معًا وربيعُ
 


وفي الأبيات يبيِّن لهم عروة أن هذه العادة الذميمة ما هي إلا عادة يهودية الأصل، والتسليم لأمرها لا ينجي من الضرر؛ وقوله “ذَكَّيت” أي: أسننت؛ أي: بلغت السِّنَّ([5])، وقيس وربيع: هما قيس بن زهير والربيع بن زياد العبسيَّان([6]).

ثانيًا: دعدع وكعب الأرنب:

و”دعدع” كلمة كانوا يقولونها عند العثار، وأما “كعب الأرنب” فكانوا يعلِّقونه على أنفسهم ويقولون: إنَّ مَن فعل ذلك لم تُصِبه عين ولا سِحر؛ لأن الجنَّ تهرب من الأرنب؛ لأنها ليست من مطايا الجنِّ؛ لأنها تحيض، فقال الشاعر: [الطويل]

ولا يَنفَعُ التَّعشِيرُ إنْ حُمَّ واقِعٌ

 ولا دَعدَعٌ يُغنِى ولا كعبُ أرنبِ([7])

فقد أبطل بهذا البيت عادة التَّعشير ودعدع وكعب الأرنب.

وقال الشَّنفرَى [ت: 70ق.هـ]([8]): [المتقارب]

وليسَ لوالدةٍ هَمُّها

 ولا قِيلُها لابنِها دَعْدَعِ

تَطُوفُ وتَحذَرُ أحوالَهُ

 وغَيرُكِ أملَكُ بالمصرَعِ

يؤكد الشَّنفرَى أن قول “دعدع” لا ينفع ولا يضر، فأبطل بالبيتين قولها.

ثالثًا: الأزلام:

   الأزلام: جمع زَلَم وزُلَم -بفتح الزاي وضمِّها- وهي السِّهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها([9])، وكان من عادتهم أن يستقسموا بالأزلام إذا أقدموا على أمرٍ حاسم من أمورهم، فخرج على هذه العادة الذميمة أحد شعرائهم وأبطلها؛ حيث «كان رجلٌ قد قُتِل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى “ذا الخلصة” فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال: [مشطور الرجز]

لو كنتَ يا ذا الخَلَصِ الموتُورا

مِثلِي وكان شيخُكَ المَقْبُورا

لَمْ تَنْهَ عَن قتلِ العداةِ زُورا

وذو الخلصة هذا صنمٌ لهم، كان بتبالة بين مكة واليمن»([10]).

رابعًا: التَّبرُّك بالأصنام:

وكان من عادتهم في جاهليتهم أن يتبرَّكوا بأصنانهم التي اتخذوها للعبادة، ومنها صنم يقال له سعد، كان لِبَني مِلْكان بن كنانة، فأقبل رجل منهم بإبله، يلتمس بركته، فلمَّا رأت الإبل الصنم يُهَراق عليه الدماء؛ نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب الملكاني، فأخذ حجرًا فرمى به الصنم، ثم قال: لا بارك الله فيك، نفرتَ عليَّ إبلي!! ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له؛ قال: [الطويل]

أَتَيْنا إلى سعدٍ ليجمَعَ شَمْلَنا

 فشَتَّتنا سعدٌ فلا نحنُ مِن سعدِ

وهَلْ سعدُ إلَّا صخرةٌ بِتَنُوفةٍ

 مِنَ الأرضِ لا تدعو لِغَيٍّ ولا رُشْدِ([11])

فقد ثار هذا الشاعر على صنمهم وأبطل التَّبرُّك به؛ والتَّنوفة هي الأرض القفر التي لا ماء بها ولا أنيس([12]).

ومن الشعراء الذين سخروا من الأصنام أيضًا ومن التَّبرُّك بها: خزاعي بن عبد نهم [لم أقف على تاريخ وفاته]؛ الذي كان سادنًا على صنم يقال له “نهم”، فلمَّا سمع بالنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثار على الصنم فكسره، وقال: [الطويل]

ذهبتُ إلى نَهْمٍ لأذبحَ عندَهُ

 عتيرةَ نُسْكٍ كالذي كنتُ أفعلُ

فقلتُ لِنَفسي حِينَ راجعتُ عقْلَها

 أهذا إلهٌ، أيُّكم ليسَ يَعقِلُ

أبَيْتُ فَدِيني اليومَ دِينُ محمَّدٍ

 إلهُ السَّماءِ الماجدُ المتفضِّلُ([13])

فقد كان خزاعي بن عبد نهم مؤهلًا من داخل نفسه للثورة على هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، لذلك كان سريع الاستجابة لدعوة الإسلام.

خامسًا: التَّطيُّر:

وكانوا في جاهليتهم يزجرون الطَّير فإن أيمَنَ تفاءلوا، وإن أيسَرَ تشاءموا، «وقد أكثرت العرب مِن ذكر الطِّيَرة، والزَّجر، وكانت تقتدي بذلك وتجري على حكمه»([14])، وفي جاهليتهم قال لبيد بن ربيعة [ت: 41هـ] مبطلًا ذلك([15]): [الطويل]

لَعَمْرُكَ ما تَدرِي الضَّوارِبُ بالحَصَى

 ولا زاجِراتُ الطَّيرِ ما اللهُ صانِعُ

يؤكد لبيد بطلان الزجر وأنه لا فائدة منه، وهذه نماذج من مواقف الشعراء تجاه بعض المعتقدات والعادات والتقاليد التي كانت لديهم في الجاهلية، ولمَّا جاء الإسلام أبطل كل تلك الأباطيل.


 ([1])انظر: طبقات فحول الشعراء، ابن سلام (1/ 24)، تحقيق: محمود محمد شاكر، طبعة: دار المدني، جدة، د.ط، د.ت.

 ([2])انظر: الحيوان، الجاحظ (6/ 504)، طبعة: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1424هـ؛ معجم البلدان، ياقوت الحموي (3/ 84- 85)، طبعة: دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م.

 ([3])انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي (3/ 84- 85).

 ([4])الأبيات في ديوان عروة بن الورد (ص146- 148)، شرح: يعقوب بن السِّكِّيت، اعتنى بتصحيحه: الشيخ ابن أبي شنب، طبعة: مطبعة جول كربونل، الجزائر، 1926م.

 ([5])انظر: لسان العرب، ابن منظور (14/ 288)، طبعة: دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414هـ.

 ([6])انظر: شرح ديوان عروة، ابن السكيت (ص148).

 ([7])انظر: الحيوان، الجاحظ (6/ 504)؛ نهاية الأرب في فنون الأدب، النويري (3/ 123)، طبعة: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423هـ.

 ([8])البيتان في ديوان الشنفرى (ص52)، تحقيق: د. إيميل بديع يعقوب، طبعة: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1417هـ- 1996م.

 ([9])انظر: لسان العرب، ابن منظور (12/ 269- 270).

 ([10])انظر: الأصنام، الكلبي (ص34- 35)، تحقيق: أحمد زكي باشا، طبعة: دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2000م.

 ([11])انظر: السيرة النبوية، ابن هشام (1/ 81)، تحقيق: مصطفى السقا- إبراهيم الإبياري- عبد الحفيظ الشلبي، طبعة: شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375هـ- 1955م.

 ([12])انظر: لسان العرب، ابن منظور (9/ 18).

 ([13])انظر: الأصنام، الكلبي (ص 39- 40).

 ([14])انظر: زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق القيرواني (2/ 524)، طبعة: دار الجيل، بيروت، د.ط، د.ت.

 ([15])البيت في ديوان لبيد (ص57)، اعتنى به: حمدو طمَّاس، طبعة: دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1425هـ- 2004م.

الباحث حسن الحضري

كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم النقد الأدبي القديم

University Generations and Technology

#جامعة#أجيال#وتكنولوجيا

About the author

admin

Leave a Comment