الإسلام والعلم الحديث: تفنيد شبهة التعارض وإبراز أسس الانسجام

الإسلام والعلم الحديث: تفنيد شبهة التعارض وإبراز أسس الانسجام مقدمة: تشخيص الداء تدّعي بعض الأوساط أن الدين الإسلامي، بنصوصه الثابتة، يقف حاجزاً أمام تقدم العلم، بل ويتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة! هذا الادعاء غالباً ما ينبع من قراءة قاصرة لنصوص الإسلام من جهة، وفهم غير دقيق لطبيعة العلم من جهة أخرى. والرد عليه يكون بتفكيكه إلى مكوناته، مع التأكيد على أن التعارض الحقيقي ليس بين "الإسلام والعلم"، بل بين "الفهم البشري القاصر للنص والفهم البشري القاصر للظاهرة الطبيعية". أولاً: الإسلام يحث على العلم والعقل والبحث قبل الحديث عن التعارض، يجب تأصيل موقف الإسلام من العلم نفسه. · النصوص التأسيسية: أول آية نزلت من القرآن كانت الأمر بالقراءة والعلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1-4]. لقد حددت كلمة "اقْرَأ" السمة الأساسية الأولى لهذا الدين، وهي سمة العلم والمعرفة. ولم يكن هذا الأمر مجرداً، بل اقترن مباشرةً بمنهج البحث العلمي؛ فأمر بالقراءة في كون الله {الَّذِي خَلَقَ}، ثم وجه النظر إلى أسمى المخلوقات {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} في إشارة لدراسة العلوم الإنسانية والطبية. وكرر الأمر بالقراءة مقروناً بأداة العلم والحفظ {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم}، مما يؤكد أن المعرفة قائمة على البحث والتسجيل والتدوين. وهذا المنهج يتأكد في السورة التالية {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، حيث تُقسَم الله بأدوات الكتابة والعلم، في تأكيدٍ على أن القلم وسطر العلم هما من أسس بناء الحضارة. ولم يكن خطاب العقل في الإسلام ثانوياً، فالقرآن الكريم لم يستخدم كلمة "العقل" كاسم جامد، بل جاءت مشتقاته التي تدل على الفعل والحِراك والاستمرار – مثل "يعقلون" و"تعقلون" – ثمانية وأربعين مرة، وجاءت كلها في صيغة الفعل المضارع الدال على الاستمرارية والحضّ الدائم على إعمال الفكر. هذا الحضور الطاغي للعقل في صيغته الحية والديناميكية ليس مجرد ظاهرة لغوية، بل هو تجسيد لرؤية الإسلام التي تجعل العقلَ حَكَماً ومخاطَباً ومستنِداً للإيمان. · موقف حضاري فريد: مقارنة تاريخية لإدراك ضخامة الموقف الإسلامي من العلم،لا بد من مقارنته بالموقف السائد في الحضارات الأخرى في العصور الوسطى. بينما كان الإسلام يرفع شأن العقل والعلماء منذ لحظته الأولى بأمر "اقْرَأ"، كانت أوروبا تعيش عصورها المظلمة تحت هيمنة كنيسة تبنت فلسفات بشكل دغماطيقي، وحاربت أي فكر علمي يخالفها. لقد وصل الأمر إلى حد إصدار توجيهات تمنع التفكير المستقل، شعارها: "أَطْفِئ سراج عقلك واتبعني"، و"لا تفكر وإلا هلكت". ونتيجة لذلك، لاحقت الكنيسة آلاف العلماء وكفّرتهم بل وأعدمت بعضهم، كما حدث مع العالم جيوردانو برونو الذي أُحرق حياً بسبب تأييده لفكرة اتساع الكون، ومع غاليليو غاليلي الذي أجبر على التراجع عن نظرياته تحت وطأة التهديد. في المقابل، كان الخلفاء المسلمون يوزنون كتب العلماء بذهبهم، ويبنون "بيت الحكمة" في بغداد كأعظم مركز علمي في عصره، ويستقدمون المترجمين والعلماء من كل الأديان والأعراق لينهلوا من المعرفة ويضيفوا إليها. لم يكن هذا مجرد كرم، بل كان تجسيداً عملياً للتوجيه القرآني: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. فهنا، لا يُقتل العالم لأنه فكّر، بل يُرفع درجات لأنه توصل إلى حقيقة أظهرت إبداع الخالق وعظمته. · التاريخ شاهد: الحضارة الإسلامية العظيمة قامت على هذا الأساس العلمي، حيث حفظ المسلمون تراث الحضارات السابقة، وطوروه، وأضافوا إليه إضافاتٍ عظيمة على يد علماء مثل ابن الهيثم في البصريات، والخوارزمي في الرياضيات، وابن سينا في الطب. كانت جامعاتهم ومكتباتهم منارات للعلماء من جميع الأديان، وكان هذا الإرث تجسيداً عملياً للتوجيهات القرآنية والنبوية. ثانياً: تحديد مناطق النزاع: لا تعارض بين القطعيات الخطأ الشائع هو الخلط بين أنواع المعرفة. للتوضيح: · النص الشرعي القطعي: هو نص ثابت لا يحتمل إلا معنى واحداً في مسألة عقدية أو تشريعية (مثل: وجوب الصلاة)، ونؤمن به. ·الحقيقة العلمية الثابتة: هي نتيجة تجريبية تم إثباتها بشكل قاطع لا شك فيه (ككروية الأرض). ·النظرية العلمية: هي تفسير علمي لأحداث الطبيعة، قابلة للتعديل أو التغيير مع ظهور أدلة جديدة (كنظرية التطور). النتيجة: لا يمكن أن يوجد تعارض حقيقي بين النص الشرعي القطعي والحقيقة العلمية الثابتة. إذا ظهر تعارض، فالخلل إما: 1. في فهم النص (فقد يكون غير قطعي الدلالة أو يحتمل معاني أخرى تتوافق مع العلم). 2. في تلك "الحقيقة" العلمية (فقد تكون مجرد نظرية لم تثبت بعد). ثالثاً: نماذج للرد على "مزاعم التعارض" دعنا نطبق المنهج على بعض الشبهات الشائعة: الشبهة الأولى: خلق الكون · ادعاء التعارض: يزعم البعض أن القرآن يصف خلق الكون في ستة أيام بينما العلم يقول إنه استغرق مليارات السنين. ·التفكيك والرد: 1. لفظ "اليوم" في القرآن ليس مقصوداً به اليوم الأرضي (24 ساعة) الذي نعرفه. فالقرآن نفسه يذكر أن مقدار "اليوم" عند الله مختلف: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. إذن "اليوم" هو مرحلة أو حقبة زمنية. 2. التوافق مع العلم: يتوافق وصف القرآن لبداية الكون مع الحقائق العلمية الحديثة، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]. فـ "الرتق" هو الالتحام، و"الفتق" هو الانفصال، وهي صورة دقيقة لنشوء الكون وفقاً لنظرية الانفجار العظيم. الشبهة الثانية: أطوار خلق الجنين · ادعاء التعارض: كان الاعتقاد السابق أن وصف القرآن لمراحل خلق الجنين غير دقيق. ·التفكيك والرد: 1. الدقة القرآنية: وصف القرآن مراحل تخلق الجنين بدقة بالغة في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14}}. 2. شهادة العلم الحديث: أعجب علماء مختصون في علم الأجنة بهذه الدقة القرآنية التي سبقت زمنها. وقد اعترف عالم الأجنة الشهير كيث مور بأن هذه الأوصاف لا يمكن أن تكون صادرة من أمي في صحراء قبل 1400 عام، ووافق على إدراج الإشارات القرآنية في طبعات لاحقة من كتابه المرجعي. الشبهة الثالثة: أصل الإنسان · ادعاء التعارض: تزعم نظرية التطور أن الإنسان تطور من أصل حيواني، بينما النص القرآني يؤكد أن أصل الإنسان هو آدم، خُلق مباشرة بنفخة من روح الله. ·التفكيك والرد: 1. تمييز العلم عن الإيمان: النص القرآني في خلق آدم بكونه أبا البشر ونفخ الروح فيه هو نص قطعي في العقيدة الإسلامية. بينما نظرية التطور، خاصة فيما يخص أصل الإنسان، تظل في إطار النظريات العلمية القابلة للنقاش والتعديل، والتي تفتقر إلى أدلة قاطعة ترقى إلى مستوى اليقين. 2. القطع والظن: لا يمكن تعطيل اليقين الديني بنظرية علمية ظنية وغير مكتملة. كما أن الإسلام لا يمنع دراسة تطور الكائنات الأخرى ضمن مشيئة الله وقدرته، لكنه يضع للإنسان منشأً ومساراً ومصيراً فريداً قائماً على التكريم والنفخة الروحية. خاتمة: من صراع إلى انسجام بعد هذا التفكيك، يتضح أن شبهة التعارض بين الإسلام والعلم قائمة على عدة أوهام: 1. وهم الخلط بين العلم والنظريات: حيث تُقدم النظريات غير المثبتة على أنها حقائق مطلقة. 2. وهم الجمود على فهم حرفي للنص: مع إغفال أن النصوص تحمل إشارات ومعانٍ تحتاج إلى تأمل مع تقدم المعرفة. الإسلام دين يخاطب العقل ويحث على النظر في الكون، ويرى في العلم طريقاً إلى الإيمان. فكلما تعمقنا في العلم، ازددنا يقيناً بإعجاز الخالق وعظمته. والمنهج السليم هو أن نسير في طريقين متوازيين: طريق الوحي وطريق العقل، على يقين أنهما لن يلتقيا إلا على الحق، لأنهما من مصدر واحد. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93]. د. محمد سعيد أركي مع تحيات قسم الدراسات الإسلامية Generations and Technology University جامعة أجيال وتكنولوجيا الأمريكية https://gtuedu.org/