معنى كلمة الفتنة في دين الإسلام

بقلم الأستاذ الشيخ عبد الله خليل التميمي

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشر : معنى كلمة #الفتنة في دين الإسلام : لتُفهم كل الرسالة لا بد من الإنتباه جيدا لمقدمتها و متابعة ما فيها بصبر و تأنٍّ ، و لعلها أخطر رسالة يقرأها المرء في أيامنا هذه :: “الفتنة” كلمة عربية لها عدة معان متقاربة الجوهر ، و لقد وردت في القرآن الكريم و السنة الشريفة بمعنيين متطابقين متداخلين ؛ أحدهما يشير إلى نوع أول عام شامل من الفتنة يشمل كل معانيها ، و الثاني يشير إلى معنى للفتنة أضيق نطاقا و زمنا ، و لكنهما من حيث النتيجة يوافقان المعنى اللغوي الحرفي و هو : استعمال النار لإذابة كتلة معدن يشتبه أن فيها ذهب حتى يظهر الذهب إن وجد فيها معزولا عن المعادن الأخرى المختلطة معه .فأن وجد الذهب بانت كميته و نسبته من وزن الكتلة التي أذيبت ، و إن لم يوجد انكشف زيفها و طرحت لغير استعمال الذهب إن صلحت للإستعمال ، و هذا العمل ينطبق على وصفه أيضا لفظ “إختبار” و لفظ “إمتحان” فالنار محنة تنزل على كتلة المعدن و بسبب هذه المحنة يظهر من الكتلة ما كان خافيا . ورد لفظ “فتنة” في القرآن الكريم تشبيها بليغا يوضح الله تعالى فيه عمل سنة من أعظم و أخطر سننه جل و علا في عباده المكلفين بالطاعة و المتوعدين بالحساب ، سنة تستحوذ على حياة كل إنسان من مهده إلى لحده .و أما معناها الأعمّ فهو : إختبار إستجابة الإنسان لعموم دعوة رسل الله تعالى عليهم الصلاة و السلام للدخول في طاعة أوامر الله تعالى التي يبلغها الرسل لعباده سبحانه ، أول هذه الإختبارات هو رد الإنسان على دعوة الرسل بالقبول أو الرفض ، فإن قبل دخل في سائر الإختبارات التي تستغرق مدة حياته ، و هي إختبارات لطاعته و تنفيذه لأوامر رسل الله عليهم صلوات الله و سلامه التي يبلغونها عن الله تعالى و هي تشمل كل حركة و سكنة و فعل و ترك يقوم به الإنسان من لحظة إستيقاظه إلى لحظة نومه مدة حياته ، و هذه الإختبارات تقع خلال ظروف متغيرة يعيشها الإنسان ما بين شدة و رخاء و رغبة و رهبة و يقظة و غفلة ، و لقد لخصها سبحانه و تعالى بقوله : {كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون} .بهذا المعنى يكون الأمر بالصلاة فتنة و الأمر بالزكاة فتنة و الأمر بذكر الله تعالى فتنة و الأمر بالتفكر فتنة و الأمر بالصبر على المصاعب و الآلام فتنة و الأمر ببرّ الوالدين و الصّلة و الصّدق و العفاف فتنة و كل أمر من أوامر الله بهذا المعنى العام هو فتنة ، لأن أيا منها يكلف العبد مشقة بدرجة ما و ترك أي منها يغريه بالراحة المؤقتة العاجلة من هذه المشقة .أما المعنى الأضيق و الأخص للفظ فتنة في كتاب الله و سنة نبيه عليه الصلاة و السلام فهو التالي : قال تعالى : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يُفتنون @ و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين .(العنكبوت) و قال تعالى : و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله . (الأنفال)و هي تعني إختبار ثبات الإنسان المسلم على أصل إسلامه و إيمانه ، و تمييز المؤمن الصادق اليقين من الذي يدعي الإيمان و يضمر الشك في دينه و في دعوة الرسل عليهم الصلاة و السلام ، و أول هذه الفتن تعرض لها المسلمون في مكة المكرمة قبل الهجرة ، ذلك أن أهل الكفر في مكة اجتمعوا على اضطهاد المسلمين و التضييق عليهم و تشكيكهم في صدق نبيهم صلى الله عليه و سلم ، و استعملوا لهذا كل الوسائل المتاحة بداية من الجدل و انتهاء بالقتل تحت التعذيب ، و امتد هذا مدة زمن بعثة النبي صلى الله عليه و سلم ، فثبت من ثبت و سقط من افتتن ، و كان الساقطون قلة لم يكد يرد ذكرهم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان بين المؤمنين يرد الشبهات و يبين سبيل الحق و يمد المؤمنين بأمداده النورانية.و تلت هذه الفتنة تلك الفتنة المثالية لكل هذا النوع من الفتن و هي التي نشأت بمجرد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم : و تعرف بالردة إذ سقط فيها أكثر من نصف عدد من كان أسلم من العرب و ارتدوا عن الإسلام ، لقد عصفت هذه الفتنة بالأمة لولا أن شخصا واحدا ثبت لها و كشفها و هو أبو بكر رضي الله عنه فعصم الله تعالى به أهل الثبات بعد إذ كادت تطيش حلومهم من هول الفتنة و من غموض ما قامت عليه من أضاليل و شبهات ، فلقد بقي العرب يشهدون الشهادتين ، و لم يعودوا لعبادة الأوثان ، و قالوا أنهم لم يبدلوا دين الإسلام إلى دين آخر ، لكنهم زعموا أن فرائض في الدين قد سقطت بوفاة النبي صلى الله عليه و سلم و أنه ليس بخاتم النبيين و المرسلين ، و لقد حيرت هذه الحالة أكثر نخبة أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، و منهم عمر رضي الله تعالى عنهإلى درجة أنه أشار على خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدم قتال المرتدين ، فلقد روى الشيخان في الصحيح أنه لمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ و نَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَ حِسَابُهُ على الله “. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَ اللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَ اللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن قد شرح الله صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ (حديث صحيح) .لقد ظن أولئك الصحابة الأجلاء أن الردة عن دين الإسلام تكون فقط بإنكار شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، و انتحال دين آخر بدل دين الإسلام و غاب عن وعيهم ما بقي حاضرا في وعي أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن الردة تكون أيضا بأن يجحد المرء شيئا من فرائض الله تعالى على عباده ، و أن من جحد ما هو ثابت في الإسلام و إن بقي يشهد بلسانه شهادة الحق ليس مسلما بل هو مرتد عن الإسلام ، و لو بقي مقرا ببقية ثوابت الدين ، ستكون هذه الشهادة موجبة للحد في عنقه و للحرب عليه بلا رحمة ، حرب هي أشد من الحرب على عبدة الأوثان حتى يرجع إلى الإقرار بما جحده من ثوابت الملة المحمدية و إن أقر بباقي هذه الثوابت ، أن المرء إن جحد شيئا من الإسلام جحد الإسلام كله ، و لقد كان ثبات الصديق رضي الله تعالى عنه سببا في إظهار هذه الحقيقة و تثبيتها و تثبيت يقين الصحابة بأمر دينهم و تقديمه على ما سواه ، كما أظهرت تلك الفتنة بشبهاتها الشكّ الدفين الذي أضمره أكثر زعماء العرب الذين بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة . تاب الله تعالى على كثير ممن سقط في تلك الفتنة من أهل الشك فزال شكهم و ثبت اليقين في قلوبهم ، و هلك فيها كثير من أهل الشك و الشقاوة و لا كرامة و لا عذر لهم بجهلهم و لا بأنهم خدعوا من متنبئة كَذَبة أمثال مسيلمة أو دعاة سفاهة كالذين جحدوا الزكاة و حق السلطان المسلم في جبايتها ، فحق عليهم قول الله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (البقرة) فعندما يقدم المرء على التخلي عن دينه إيثارا للسلامة أو لمصلحة أدنى يكون قد أثبت أن قوله صلى الله عليه و سلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين . لا يشمله و أنه لم يحقق شرط وجود الإيمان و هذا يعني أنه مستحق للهلاك في الآخرة و العياذ بالله ، و معلوم أن الله تعالى لا يهلك عبدا حتى يُـعـذِر من نفسه بنفسه . ثم تتالت الفتن بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى ، و كلها كانت أحداثا عظيمة يصنعها أناس من ذوي القوة و القدرة و الدهاء ، تدور فتنتهم حول تحريفات و تفسيرات مزيفة خادعة لنصوص من القرآن و الحديث الشريف ، هذه التفسيرات يزعم أصحابها أنها الحق الذي غاب عن جميع الأمة المحمدية حتى جاؤوا هم فأماطوا عنه اللثام و بينوه ، ثم يفرضون على الناس تفسيراتهم الزائفة بالقوة و القهر و يستبيحون بها دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم ، و لا يتجرؤون على فرض ضلالهم أو ردتهم على الناس إلا بعد أن ينخدع لزيف قولهم الجمع الغفير فيتقوون به على محاربة أهل الحق و المجاهرة بالضلال و الدعوة إليه . هذه الفتن المتتابعة المتباعدة زمنيا نعدد منها على سبيل المثال : فتنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، فتنة الإسماعيلية العبيديين (المتسمين زورا الفاطميين) ، فتنة القرامطة ، فتن المهدوية و هي بالعشرات ، فتنة المتشيعة البويهيين ، فتنة المتشيعة المغول ، فتنة التيموريين النصيرية ، فتنة النصيرية الحمدانيين ، فتنة الصفويين المتشيعة ، فتنة الملاحدة الماسونية ، فتنة البكتاشية ، فتنة الوهابية المجسمة ، فتنة الأحزاب الإلحادية ، فتنة التنظيمات الإسلامية كالإخوان و أضرابهم ، و غيرها كثير إلى يومنا هذا الذي تجمعت فيه الفتن الماضية كلها و هي الآن تضرب في طول بلاد الإسلام و عرضها و كل منها تضرب إقليما واحدا أو أكثر أو تفشو في سائر أقاليم الأرض ، حتى أن مصراً واحدا على وجه الأرض لم يعد يخلُ من إحدى هذه الفتن أو من عدد منها أو من كل هذه الفتن مجتمعة كما هو حال بلاد الشام .كلها فتن صنعها دعاة يزعمون أنهم وحدهم أهل الحق في الأرض ، و أن سائر الناس هالكون إن لم يلحقوا بهم ، و أنهم جاؤوا بشيء من أصل الملة غاب عن عشرات الملايين من علماء المسلمين مدة دهر الإسلام ! دعاة ألبسوا الضلال أثوابا مزيفة حتى بدا للعامة أنه حق ، ثم لم يكد يبقى على الحق سوى ثلة جعلهم الله سببا في أن يكر الحق على الباطل حتى يمحوه فكأنه لم يكن ، كمثل ما وقع لأصحاب الكهف مع قومهم ، و هي فتن من جنس ما وقع للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه و لمحمد بن نوح و نعيم بن حماد و ثلة من فقهاء و علماء السنة في فتنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، فصبروا و ثبتوا حتى غُيـّبوا عن الناس إلى أن أظهر الله تعالى حقهم و أبطل بثباتهم الباطل ، و لقد هلك في تلك الفتنة مئات الآلاف ممن انخدعوا بها و ضيعوا إيمانهم ، و من المفتونين من بقي حيا حتى تاب الله تعالى عليه بعد انحسار الفتنة و انبلاج الحق و تبدد سحائب الشبهات و الضلالات من أمام وجهه .هذا النوع الثاني من الفتنة جعله الله تعالى إمتحانا فاصلا قاطعا بين أهل اليقين الثابت بدين الحق الذين يقدمون إيمانهم على كل ما عداه ، و بين أهل الشك و الزيغ و الذين لا يقيمون للدين وزنا إلا عندما لا يتعارض مع سلامتهم و سلامة مصالحهم .فمن ينخدع بهذه الفتن المتعرضة بالجحود و التبديل لأشياء من أصل الدين سيفقد أصل الإيمان و الدين من نفسه و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم ، و لا يفيده الاعتذار بأنه إنما التبس عليه الأمر و غمّ عليه الحق فتاهت خطواته إلى الضلال ، و لا يفيده في الدنيا و لا في الآخرة اعتذار من اعتذر له بالجهل ذلك أن أصل هذه الفتن هو امتحان تقديم المرء لأمر دينه على ماعداه .لا يعذر بجهل من سقط في هذه الفتن لأن هذه الدعوات لا يكاد يسمع المرء بها حتى يرتاب في أمرها إن كانت عنده مُسكة من عقل و يقين بالإسلام ، فالمرء يجد في أول وهلة أن أصحاب هذه الفتن ينسبون الكفر و الضلال إلى سواد المسلمين و إلى ما اتفق عليه سلفهم الصالح ، محتجين بشبهات و حجج مزيفة لا تروج إلا على من لم يهتم لأمر دينه و أخذته العزة بجموع المفتونين من حوله فانساق معهم طمعا بمنفعة مرجوة أو صيانة لمنفعة حاصلة ، فتراه لم يكلف نفسه أن ينظر إلى هذه الدعوات المضلة نظرة تمحيص و إنصاف و بحث و تقص ، و لم يعمل عقله بجد في مقتضيات هذه الدعوات و ثناياها ، بل تجده على العكس يبحث و يتقصى عما يبرر له الإنسياق مع هذه الدعوات و مناصرتها و استعمالها للحرب على جمهور الأمة أهل الحق و السنة المحمدية الشريفة .نحن اليوم في زمن فتنة هي أعظم هذه الفتن منذ أن توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي فتنة “الدعاة على أبواب جهنم” التي ذكرها النبي صلى الله عليه و سلم في آخر الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما : قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير و كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية و شر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : “نعم” ، قلت : فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : “نعم، و فيه دخن”، قلت : و ما دخنه يا رسول الله ؟ قال : “قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم و تنكر” ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال : “نعم ، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها” ، قلت : يا رسول الله صفهم لنا، قال : “هم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا”، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : “تلزم جماعة المسلمين و إمامهم”، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة و لا إمام؟ قال : “فاعتزل تلك الفرق كلها و لو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت و أنت على ذلك”.هم دعاة مخادعون مهرة في خداعهم ، و هم كثيرون جدا حتى أنهم سيُلجؤوا المؤمن إلى منجى منهم ، من انخدع لهم ضاع أصل دينه فإن مات على خديعتهم دخل جهنم فهم وافقون على أبوابها يستزلون الناس إليها و هذا ما جُعلوا له ، فهم جباة لنصيب جهنم من بني آدم و هم أنفسهم بالعموم من هذا النصيب ، هي فتنة مشابهة للفتنة الأكبر و هي فتنة الدجال فهو طاغية داعية إلى جهنم من استجاب له و مات مفتونا به لقي الله تعالى كافرا لا حجة له و لا عذر بجهل ، على أن النبي صلى الله عليه و سلم بيّن أن الدجال يظهر في زمن جهل و قلة علم يشمل زمان الدجال ، إلا أن هذا الجهل ليس عذرا بحال للإستجابة للدجال و الإقرار بربوبيته و تأليهه و عبادته و الزعم بأنه هو الله ، تعالى الله سبحانه عن هذا الدجل . هذه الفتن الأشد إنما جُعلت لتستخرج بعث النار من ذراري هذه الأمة و العياذ بالله تعالى ممن آمنت ألسنتهم و شكّت قلوبهم ، و ليست فتنا لترجيح أعمال العبد بين طاعة و معصية ، و ليست لتنقية إيمانه كالابتلاءات المعتادة ، و لا بد للمرء من أن يميز هذه الفتن الأشد عن سواها حتى يسعى في النجاة منها ، و أعظم الخطر هو مزج هذا النوع الثاني من الفتن بالنوع الأعم الأول المذكور في أول الرسالة ، لأن هذا المزج يوقع صاحبه بالإستهانة بأمر هذا النوع الأشد من الفتن فيزل فيها و هيهات له بعد أن يخرج منها إلا بما يشبه معجزة من العفو الرباني إن وقعت ، و أفظع ما في فتنة هذا الزمان أنها مموهة بما يجعل المرء الغافل يمزج بسهولة بينها و الفتن العامة من النوع الأول .بدأت هذه الفتنة الأعظم التي نعيش في زمانها مع اجتياح الغزاة الأوربيين الملاحدة لبلاد الإسلام ، و ذلك بعد أن استتب الأمر لأهل الإلحاد في أوربة على حساب الديانة النصرانية بأنواعها الكبرى (الكاثوليكية – البروتستانتية – الأرثوذوكسية) ، و كان الملحدون قد دبروا خططا طويلة الأمد للقضاء على الديانة النصرانية و إباحة جميع محرمات هذه الديانة تدريجيا ، لقد كانت الخطوة الأولى لإباحة هذه المحرمات هي تسميتها بغير إسمها الذي تسميه بها الديانة النصرانية ، و اختيار أسماء لطيفة لهذه المحرمات لا تنفر منها النفوس للوهلة الأولى ، فالربا غُيّر إسمه إلى “الفائدة على القروض” ، و الزنا غُير إسمه إلى “علاقة جنسية” أو “ممارسة الحب” أو “المعاشرة” ، و بدلوا اسم “تعري النساء” إلى إسم “الموضة” و “التحرر في اللباس” ، و بدلوا اسم عمل قوم سدوم إلى “الشذوذ الجنسي” ثم إلى “المثلية الجنسية” ، و سمي فاعل هذه الفاحشة الأعظم بإسم “المسرور المرح” ، و أطلق على المسكرات إسم “المشروبات الروحية” ، و على “الميسر” إسم “المراهنات” إلخ .و على المقلب الثاني أطلق الملاحدة أشنع الأوصاف على الفضائل المضادة لهذه المحرمات ، فبدلوا إسم “العفاف” إلى “العقدة النفسية” و “الإنعزال” و “الإنطوائية” و بدلوا إسم التقوى و ترك الكسب الحرام إلى “التحجر” و “التخلف” و “البدائية” ، بدلوا إسم الغيرة على العرض و الحريم إلى “العدوانية” و “التعصب” و “العنف المنزلي” و “الرجعية” و “الأنانية” ، و صار النهي عن هذه المنكرات “إنتهاك للحرية الفردية” إلخ. حتى إذا استمرأ الناس ارتكاب هذه الجرائم و اعتادوها لم يعد لاعتراض رجال الدين النصراني من تأثير على العامة ، إذ جل ما كانوا يفعلونه هو وعظ الناس من مخاطر هذه المحرمات ، و لم يكن معظم هؤلاء القساوسة في مواعظهم يصفون مرتكبي هذه الجرائم بأكثر من كونهم “مؤمنون عصاة” في أشد حملاتهم ، الواقع أن هذه المواعظ هي التي موهت حقيقة هدف الحكام الملحدين من تغيير هذه الأسماء. عندما عجز القساوسة عن مكافحة هذه المحرمات بين رعيتهم أصدر الملاحدة القوانين التي تبيح هذه الجرائم و تجعل إرتكابها حقوقا أصلية يتمتع بها كل إنسان ، و لأن الكنيسة خافت على مصالحها و وجودها و لأنها كانت و لا تزال أضعف من أن تتحدى سلطة الملاحدة ، و لأنها لا تملك أصلا حدودا تفصل بين النصراني المؤمن و النصراني الذي كفر بنصرانيته ، و حتى تضمن استمرار وجودها و لو رقميا فإنها أقرت هي الأخرى بإباحة هذه المحرمات تدريجيا حتى وصل الأمر بكبير كهنتها إلى إنكار وجود جهنم إرضاء لرعيته الذين يريدون ممارسة المحرمات و الجرائم الموصوفة في الإنجيل و التوراة دون تأنيب ضمير ، بل يريدون أن يسمعوا كلاما يفيد بأن هذه الجرائم من الأعمال التي ترضي الإله عنهم ، لقد تخلى القساوسة عن كل النصرانية و قنعوا منها بمجرد طقوس عند الولادة و الوفاة و بل و حولوا طقوسهم التي يقدسونها إلى مهازل تهزأ بكل ما هو مقدس في النصرانية ، كطقوس زواج مزعوم بين البشر بالبهيمة و زواج مزعوم بين السدوميين.حين سيطر هؤلاء الغزاة على بلاد الإسلام كرروا نفس الخطة ، فسموا هذه المحرمات بغير أسمائها بنفس طريقتهم و باستعمال نفس الألفاظ التي استعملوها في أوربة بترجمات مدروسة بعناية ، ثم قتلوا من اعترض على هذا جهارا من علماء الإسلام ، و أغروا عددا من “قرّاء العلم” (مشايخ السوء المزيفين) بإصدار الفتاوى التي تميع تحريم هذه الجرائم و تحكم بإباحتها بذرائع متمحلة كـ “الضرورة” و “عموم البلوى” و “عدم تكليف المرء فوق وسعه” ، و بعض مشايخ السوء هؤلاء كانوا أفجر و أكفر فراحوا يزينون للعامة هذه المحرمات بأسمائها المنتحلة المبدّلة ، و يزعمون أنها ليست هي ذات المحرمات التي تصفها الشريعة المحمدية بالأسماء الأصلية ، فالربا مثلا ليس هو “الفائدة على القروض” و “الزنا” ليس هو “علاقة الحب الشريف” و “تعري النساء” ليس هو “الموضة” إلخ. ثم بدأوا تدريجيا بإطلاق الألفاظ الشنيعة على الفضائل كما بينا آنفا من صنيعهم في أوربا ، و راجت هذه الحيلة على أكثر المترفين و الرعاع حتى إختفت تقريبا في جميع اللغات المحكية في بلاد المسلمين أسماء الكثير من الجرائم الكبرى المحرمة في دين الله ، و حلت محلها أسماء بديلة لطيفة محببة إلى النفوس ، ثم تدرج الأمر حتى انتشرت استباحة هذه المحرمات و صارت قانونا و صار المعترض عليها مجرما متعصبا و خارجا عن القانون و العرف و لا حول و لا قوة إلا بالله . معلوم لكل ذي إيمان و إسلام أن هذه الذي يستحل هذه المحرمات بحال من الأحوال يخرج من دين الإسلام و يصير مرتدا عن هذه الملة حاله كحال أولئك العرب الذين قاتلهم الصحابة بقيادة الصديق رضي الله عنه ، و إن شهدوا الا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أقروا بما تبقى لهم من أحكام الإسلام سوى التي جحدوها. و أبين هنا نكتة خفية يجهلها الكثيرون و هي : لقد ميز الفقهاء بين مرتكب الجريمة و هو مقـرٌّ بحرمتها و بين من يفعلها أو حتى لا يفعلها لكنه يجحد تحريمها ، فالأول مسلم عاص يرجى له غفران الله تعالى ، و الثاني خارج من ملة الإسلام إن مات على جحوده لم يخرج من النار أبدا.إلا أن النوع الأول يستثنى منه المجاهر العامل بالمحرمات علنا و بإصرار و الداعي لها في عموم أحواله ، كمن يبيع الخمر علنا أو يفتح بيتا للزنا جهارا أو التي تعتاد نزع حجابها و السير شبه عارية في الطرق ، ذلك أن إستحلال أي فعل يهدف من حيث النتيجة إلى القدرة على فعله جهارا و دون خوف من أحد ، و هؤلاء صاروا إلى هذه النتيجة . الذي يرتكب محرما دون استتار أو خجل أو استحياء بناء على أحكام قانون الملاحدة التي تبيح هذا المحرم هو مستحل له و لا يجد في فعله أي غضاضة ، إذ لو أنه اعتقد تحريمه لما فعله جهارا لأنه سيخاف من الله تعالى ، و إن لم يخش السلطان فالمجاهرة بالمعصية تحد سافر لأمر الله ، و هذا الخوف لا يبدو منه ، و هذا فاضح واضح في أنه مستحل لهذا المحرم و راض باستباحته ، فكيف إن نهاه أحد عن هذا المنكر فرد عليه محتجا بأن فعله مسموح بالقانون ، فبذا يخرج قطعا من ملة الإسلام و إن صلى و صام و حج و زعم أنه مسلم . لقد أجل الله عقوبة أصحاب السبت الذين انتهكوا حرمة صيد السبت و خادعوا ربهم إلى حين إتيانهم الصيد مباشرة و جهارا يوم السبت لأن سنة الله تعالى جرت أن لايهلك أحد و يصير من أهل النار حتى يُعذر من نفسه بنفسه و يغلق بيده باب رحمة الله تعالى به ، و لقد بين شيئا من هذا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل أمتى معافى إلا المجاهرين .هذا بالنسبة للأفعال و المعاصي فكيف الأمر إن كان في الدخول في عقائد تنسب إلى الله تعالى النقائص كالعجز و الجهل و الخطأ و مثال المخلوقات و الشركاء ، أو سب النبي صلى الله عليه و سلم و إنكار عصمته إلخ مما نجده في صدر تراث أصحاب هذه الدعوات التي يقف أصحابها على أبواب جهنم .يتضح مما سبق أن أحدا من المتلبسين بهذه الفتن إن مات عليها لا يجوز بحال الترحم عليه أو الصلاة عليه ، فإن كان حيا لم يـجـُـز تزويجه من مؤمنة أو تزويج متلبسة بفتنة من هذا النوع من امرء مؤمن ، فهذه الفتن ليست مجرد فسق أو جهل ، إنها مزالق إلى جهنم و فواصل قاطعة بين الإسلام و الردة ، و هؤلاء لا ينظر إليهم على أنهم مسلمون في بادئ النظر لأن هذا يعني استحلال استحلالهم للمحرمات و الرضا بما صنعوا من حيث النتيجة.سبيل الخروج من هذه الفتنة واحد و هو التمسك بجماعة المسلمين و إمامهم ، و هذا الإمام ليس قطعا واحدا من حكام بلاد الإسلام يومنا هذا و ليس قطعا واحدا من زعماء الأحزاب و العصابات التي تسمى زورا “إسلامية” ، فهؤلاء جميعا هم الدعاة على أبواب جهنم ، إن هذا الإمام كما بين إمام الحرمين “الجويني” رحمه الله هو أقرب عالم وارث محمدي متمسك بتقليد جمهور علماء المسلمين و ما كانوا عليه قبل بروز هذه الفتن ، أي العالم المقلد لأحد إمامي العقيدة “الأشعري” أو “الماتريدي” و لأحد أئمة الفقه الأربعة “مالك” أو “أبو حنيفة” أو “الشافعي” أو “ابن حنبل” ، فإن لم يجد فاعتزال سائر هذه الفرق هو سبيل السلامة و لو كان في هذا الموت جوعا ، لأن اتباع أي من هذه الفرق طريق مؤكد إلى جهنم نسال الله تعالى السلامة.

عنيت بنشره كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية في جامعة اجيال وتكنولوجيا الامريكية

GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY