الهجرة: دروس في الكتمان
بقلم الدكتور محمد سعيد أركي

مقدمة
الهجرة النبوية ليست مجرد حدث تاريخي مفصلي في مسار الرسالة الإسلامية، بل تمثل نموذجًا مكتمل الأركان في إدارة الأزمات وتحقيق التحولات الاستراتيجية عبر توظيف أدوات التخطيط والسرية. لم يكن الكتمان في الهجرة سلوكًا عرضيًا أو احترازيًا محدودًا، بل كان عنصرًا محوريًا مكّن الدعوة من عبور مرحلة الخطر، وتجاوز التهديدات التي كانت تلاحق النبي ﷺ وأصحابه. في هذه الورقة، نحلل مظاهر الكتمان في الهجرة بوصفها استراتيجية قيادية وقيمة دعوية ومبدأ قرآني، ونستخلص منها دروسًا معاصرة في إدارة التغيير والعمل المؤسسي.
أولًا: الهجرة في السياق التاريخي والسياسي
جاءت الهجرة بعد سنوات من الاضطهاد في مكة، وتعرّض الدعوة النبوية لحصار اقتصادي واجتماعي شديد. ومع تضييق الخناق على المسلمين، بدأت ملامح الهجرة تظهر كخيار إنقاذي واستراتيجي. ومع أنها كانت قرارًا إيمانيًا، إلا أنها نُفذت بعقلانية شديدة ودقة عالية في ضبط المعلومات، بما يضمن النجاح دون اصطدام مباشر بالقوى المعادية.
ثانيًا: الكتمان في تخطيط الهجرة
من اللحظة الأولى، اعتمد النبي ﷺ على الكتمان كخيار منهجي، فتم تحديد وقت الخروج في الليل، وسلك الطريق غير المعتاد جنوب مكة، واختيرت “غار ثور” كمخبأ أولي لثلاثة أيام. كذلك، لم يُعلَن عن الموعد الحقيقي للهجرة، حتى لأقرب المقربين. كان أبو بكر الصديق وحده على علم مباشر بالخطة، ووزعت بقية المهام على أفراد لا يعلمون سوى جزئهم المحدد.
ثالثًا: توزيع الأدوار ضمن استراتيجية الكتمان
شارك في تنفيذ خطة الهجرة عدة شخصيات، أبرزهم:
– عبد الله بن أبي بكر: ينقل الأخبار من مكة.
– أسماء بنت أبي بكر: توصل الطعام والشراب.
– عامر بن فهيرة: يضيع آثار الأقدام بخرافه.
– عبد الله بن أُريقط: دليل الطريق، رغم أنه كان على غير ملة الإسلام.
كل هؤلاء عملوا في بيئة مغلقة تتسم بالكتمان والسرية، ما يكشف عن وعي متقدم بفكرة الأمن المعلوماتي ومحدودية الوصول إلى الخطة الكاملة.
رابعًا: الكتمان في ضوء القرآن والسيرة
القرآن الكريم أشار إلى أهمية الحذر والكتمان في أكثر من موضع. في سورة النساء (الآية 83): “وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول…”، تحذير من نشر المعلومات دون رويّة. كما أن قصة الهجرة نفسها تحمل إشارات قرآنية إلى الكتمان، كما في قوله تعالى: “إذ هما في الغار…” (التوبة: 40)، وقوله: “لا تحزن إن الله معنا”، الذي جاء في لحظة توتر أمني بالغ.
خامسًا: الدروس المعاصرة من الكتمان في الهجرة
1. التخطيط لا يعني التواكل: فالتوكل لم يمنع النبي من إعداد خطة محكمة.
2. الكتمان يحفظ المشاريع الكبرى: خاصة في مراحل التأسيس والتغيير.
3. محدودية الإفصاح: من قواعد العمل الناجح ألا يعرف الجميع كل شيء.
4. الثقة الانتقائية: منح الثقة لمن أثبتوا الولاء والكفاءة فقط.
5. التدرج في الإعلان: إذ لم يُعلَن عن الهجرة إلا بعد تأمين الطريق.
سادسًا: التوازن بين الشفافية والكتمان
من أبرز ما تميزت به الهجرة أنها جمعت بين الكتمان الضروري والوضوح القيمي. فلم يكن الكتمان يهدف إلى الخداع، بل إلى حماية المسار. في عصرنا، تُعد هذه القيمة ضرورة في المؤسسات، حيث لا تتعارض الشفافية الإدارية مع حفظ أسرار القرار والخطط الاستراتيجية.
خاتمة
الهجرة النبوية ليست مجرد انتقال من مكة إلى المدينة، بل مدرسة في الفكر القيادي والتدبير العملي. وقد شكّل الكتمان فيها أداة حماية وتمكين، مكّنت الرسالة من الوصول إلى بيئة آمنة وإطلاق مشروع الدولة الإسلامية. إن العودة إلى هذا الحدث بروح تحليلية، لا عاطفية، يُمكّن المسلمين اليوم من استلهام أدوات النجاح في العمل والدعوة والسياسة، ضمن واقع تتشابك فيه المصالح والمخاطر.
د.محمد سعيد أركي
مع تحيات كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية
University Generations and Technology