بقلم: د. محمد عداب الحمش.

التوسعة على العيال في يوم عاشوراء، بين المحدثين والفقهاء.
بقلم: د. محمد عداب الحمش.
الحمد لله، والصلاة والسلام على حبيب الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يأتي يوم عاشوراء ويشتد الخلاف بين العلماء حول مشروعية التوسعة على العيال، فهناك من يمنع ويحتج بضعف الأخبار الواردة في ذلك، وهناك من يبيح التوسعة باعتباره يوم شكر، ويحتجون بجواز العمل بالضعيف في الفضائل، كما يعتمدون على تصحيح بعض النقاد لبعض طرق الحديث، وهناك من يجعل التوسعة على العيال والصوم من أفعال النصب لأهل البيت رضي الله عنهم.
وهذه ورقة تلقي الضوء على المسألة بموضوعية عند المحدثين والفقهاء، بعيدا عن التشنج والاستقطاب.
أولا: حديث: ” من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته” روي مرفوعا، عن جابر بن عبدالله، وابن عمر أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود.
كما روي موقوفا من طرق أخرى.
وقد صحح بعض طرق الحديث ابن ناصر، وقوى البيهقيُّ الحديثَ بمجموع طرقه، كما في الشعب (٧/ ٣٧٩) وصححه السيد أحمد بن الصديق في هدية الصغراء.
وضعف الحديث بطرقه جمع من العلماء، فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حديث: «من وسع على أهله يوم عاشوراء» فلم يره شيئا، وضعفه الدارقطني والذهبي، وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى انه موضوع، وقال العراقي عن حديث أبي هريرة: «من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه سائر سنته» رجاله ثقات، لكنه منكر، وغيرهم من المعاصرين كالمعلمي والالباني، والزمزمي الغماري ردا على أخيه السيد أحمد، وغيرهم.
قلت: وقد تتبعت أسانيده، وأكثرها فيها مقال، وأجودها ما أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (١٠/ ١٤٠) عن الْفَضْل بْن الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، به مرفوعا.
وقال جابر، وأبو الزبير، وشعبة: (جربناه فوجدناه كذلك) كما في لسان ابن حجر (٤/ ٤٣٨) وحمل الحافظ فيه على الفضل بن الحباب، قال الحافظ: “منكر جدا، ما أدري من الآفة فيه، وشيوخ ابن عبد البر الثلاثة موثقون،….. فالظاهر أن الغلط فيه من أبي خليفة، فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه”.
قلت: الفضل بن الحباب هو أبو خليفة الجُمحيّ، قال الذهبي “مسند عصره” وكان ثقة عالما، كما وثقه مسلمة بن القاسم، وقال: (كان يقول بالوقف وهو الذي نقم عليه) واختلاطه بعد احتراق كتبه ليس متفقا عليه، والأكثر على توثيقه، وقال أبو علي الخليلي: احترقت كتبه، منهم من وثقه، ومنهم من تكلم فيه، وهو إلى التوثيق أقرب.
ومع أن الحافظ لم يظهر لديه متى سمع الأحمر من الفضل، فقد حكم على الحديث بالنكارة، وكان الاولى به التوقف في حكمه، مع أن اختلاط الرجل ليس يقينيا، ولم يذكر قول أبي زرعة آتي الذكر!!
ولا يفرح بتعقب الشيخ الألباني على الحافظ ابن حجر في تمام المنة (ص: ٤١٠) بزيادة إعلاله بعنعنة أبي الزبير عن جابر، كما هو منهج ابن حزم، فعنعنة أبي الزبير عن جابر محمولة على السماع، وهي على شرط مسلم، وقد حسن هذا الطريق أبو زرعة في جزئه التوسعة على العيال (٢) في حكمه على هذا الطريق: (وما لنا وتعنت ابن حزم في حديث فضائل الأعمال، وهو على شرط مسلم، وجماعة من الأئمة في الأحكام، فضلا عن الفضائل، وأقل أحوال هذا الطريق أن يكون حسنا، وحكمه حكم الصحيح في الاحتجاج به)!!.
فهذا إسناد حسن على شرط مسلم كما قال أبو زرعة.
ثانياً: حكم التوسعة على العيال على المذاهب الأربعة:
قال الحطاب المالكي في شرح مختصر خليل: «ينبغي أن يوسع على الأهل فيهما –أي ليلة عاشوراء ويومها-، وقال الشيخ زروق في شرح القرطبية: فيوسع يومه وليلته من غير إسراف ولا مراءاة ولا مماراة، وقد جرب ذلك جماعة من العلماء.
وقال ابن حبيب أحد أئمة المالكية:
لا تنس ينسك الرحمن عاشورا
واذكره لا زلت في الأخبار مذكوراً
قال الرسول صلاة الله تشمله
قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة
يكن بعيشته في الحول مجبورا
فارغب فديتك فيما فيه رغبنا
خير الورى كلهم حيا ومقبورا
وقال ابن عابدين في حاشيته: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها»، وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: جربته أربعين عاما فلم يتخلف.
وقال الشرواني الشافعي في حاشيته على تحفة المحتاج: «ويسن التوسعة على العيال في يوم عاشوراء؛ ليوسع الله عليه السنة كلها كما في الحديث الحسن، وقد ذكر غير واحد من رواة الحديث أنه جربه فوجده كذلك».
وقال الشيخ منصور العجيلي الأزهري الشافعي المعروف بالجمل في حاشيته على شرح المنهج: «ويستحب فيه التوسعة على العيال والأقارب، والتصدق على الفقراء والمساكين من غير تكلف، فإن لم يجد شيئا فليوسع خلقه ويكف عن ظلمه».
وقال البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: «وينبغي فيه التوسعة على العيال، سأل ابن منصور أحمد عنه فقال: نعم، رواه سفيان بن عيينة عن جعفر عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر»، وكان أفضل أهل زمانه أنه بلغه: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته».
وقال ابن عيينة: قد جربناه منذ خمسين سنة أو ستين فما رأينا إلا خيرا.
ومنع ذلك بعض الحنفية، وجماعة من الحنابلة؛ لضعف الأخبار الواردة عندهم، وذهب ابن تيمية إلى أن ذلك من البدع المستحدثة، وقال: “والأشبه أن هذا وُضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة؛ فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتمًا، فوضع أولئك فيه آثارًا تقتضي التوسعة فيه واتخاذه عيدًا، وكلاهما باطل” وعده ابن ناصر انه من وضع غلاة الناصبة.
وقال المجد اللغوي: ما يروى في فضل صوم عاشوراء والصلاة فيه والإنفاق والخضاب والادهان والاكتحال بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه. (فيض القدير ٦/ ٢٣٦).
وقد روي عن عدد كبير من السلف انهم جربوا التوسعة على العيال لسنوات طويلة ورأوا صدق ذلك، والكلام طويل.
وختاما نجد أن جمهور المحدثين على تضعيف الحديث، وصحح أبو زرعة طريقا من حديث جابر، وصححه بمجموع طرقه البيهقي، والسيوطي، والغماري.
ومعتمد المذاهب الأربعة كما يظهر استحباب ذلك، وعمل بذلك جمهرة من أتقياء السلف، وخالفهم بعض الحنفية وجماعة من الحنابلة.
فمن أراد الصيام فهو ثابت، ومن أراد التوسعة على العيال فله ذلك، ولكن ليس على طريقة النواصب في الفرح بمقتل الإمام الحسين رضي الله عنه، ولا على طريقة الروافض في تحويله لمأتم، وإنما بشكر الله تعالى على تتابع الخير الذي وجد في ذلك اليوم من نجاة موسى، واستواء سفينة نوح، فصاما شكرا لله، كما في مسند أحمد.
وصوم المصطفى بعد ذلك وأمر بصيامه، وبيانه لعظمته ومكانته عند الله وخصوصيته، فقال كما أخرج مسلم وغيره: (صيام يوم عاشوراء يكفر السنه التي قبله).
وما روى الشيخان في صحيحيهما أنه اليوم الذي الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، ويستأنس بما روي أنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم عليه السلام، وفيه هبط إلى الأرض، وفيه آتى سليمان عليه السلام الملك، وفيه عاد يوسف إلى يعقوب عليهما السلام، وغير ذلك، وما صح من أخبار تكفي جعله يوما من أيام الله العظيمة، فمن صام ووسع على عيالة من غير سرف -شكرا لله على نعمائه-؛ فقد جمع بين الخيرين.
وأما ما حدث لسيدنا الحسين السبط سيد شباب أهل الجنة وآله الأطهار؛ لا يسوغ تحويل فضل هذا اليوم من يوم شكر لله، الى يوم فرح الناصبة بمقتله؛ لأنهم في غضب الله يرتعون!! كما يسوغ تحويله مأتما للنياحة وشق للرؤوس والاجساد، وإثارة الاحقاد على الصحابة وأهل السنة،فهذه معاص وبدع ومنكرات وشق صف الأمة وبهتان!!
فالحادثة غاب أصحابها منذ ١٤ قرنا، وقد اتفقت الأمة على ضلال القاتلين وإجرامهم وجرأتهم على دين الله بسفكهم أطهر دماء كانت تدب على الأرض؛ أهل البيت وأوليائه تعالى، وعلو شأن الحسين سيد شباب أهل الجنة وآله الأطهار!!
فقد انتهى التشريع إلى أنه يوم شكر لله سبحانه، وما جرت من أحداث وتجري بعد عصر التشريع لا تجعل منها -مهما كانت جليلة ورهيبة وعظيمة-؛ ناسخة لذلك التشريع أبدا!.
وعلى كل مسلم أن يبرأ من قتلة سيدنا الحسين، وأن ويحزن لما حدث لبيت النبوة الأطهار؛ من مصائب وإبادة وتنكيل لهم في ذلك اليوم، فلعنة الله على من أمر ونفذ ورضي وفرح واحتفل بقتلهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور محمد عداب الحمش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية
GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY
جامعة أجيال وتكنولوجيا
