Uncategorized

أثر البيئة في توظيف “العقدة النفسية” في روايات إحسان عبد القدوس

أثر البيئة في توظيف “العقدة النفسية” في روايات إحسان عبد القدوس

الدكتور حسن الحضري

 العقدة النفسية كما عرَّفها المختصُّون: «هي أنماط حِسِّيَّة وفكرية غير سويَّة، تؤدي إلى سلوك غير طبيعي، وتكون عادة عميقة الجذور في نفس الشخص المصاب بها، وتؤثِّر العقدة  النفسية في رؤية الشخص لنفسه، وتصرفاته تجاه الآخرين، ويمكن أن يكون لها تأثير كبير في حياة ذلك الشخص»(1).

   ومن هذا التعريف نتبيَّن خطورة العقدة النفسية، ومدى تأثيرها السلبي في حياة صاحبها وعلاقته بالآخرين؛ فتأثيرها ليس قاصرًا عليه، والإنسان كائن اجتماعي له علاقات وتعاملات، وهذه العقدة التي يصاب بها؛ تظهر آثارها وتبِعاتها على حياته بشكل عام، بما تتضمن من علاقات وتعاملات وغير ذلك، ومن هنا كان اهتمام كثير من العلماء والمفكرين بتناوُلِ موضوع العقدة؛ من أجل الوقوف على أبعادها ابتداء من أسبابها وانتهاء بنتائجها ووسائل علاجها، وفي العصر الحديث انتشر تناوُل هذه المسألة في فنون الأدب، ولا سيَّما العمل الروائي والمسرحي.

ويُعَدُّ الكاتب الروائي إحسان عبد القدوس مِن أكثر الروائيِّين العرب تناوُلًا لهذا الموضوع؛ فهو شغوف بمسألة العُقَدِ النفسية وكشفِ أسرارها والتوصل إلى حلٍّ لها، ويبدو ذلك واضحًا في كلامه على لسان أبطال رواياته من الأطباء النَّفسيِّين؛ ومن ذلك قوله في رواية “ثقوب في الثوب الأسود” على لسان الطبيب وهو يتحدث عن عائلة سامي “المريض”: «ووقعتُ في حيرة بين مواعيدي في القاهرة وبين لهفتي على اكتشاف سرِّ هذه النفوس؛ لأكتشف من خلالها سرَّ إفريقيا»(2)، فبيَّن في هذه الكلمات أن همَّه الأكبر وشغله الشاغل هو تحقيق اكتشاف سرٍّ جديد من أسرار النفوس؛ لأن اكتشاف الأسرار يعني معرفة الأسباب، وهي المعرفة التي تؤدي تساعد في النهاية على تطبيق قاعدة “الوقاية خير من العلاج”، فضلًا عن ربْطِه بين أسرار النفوس وبين أسرار بلادها التي تعيش فيها، كما عبَّر عن ذلك بقوله المذكور سابقًا «لأكتشف من خلالها سرَّ إفريقيا»، وهو في الوقت ذاته مهتمٌّ أيضًا بعلاج مرضاه، ولذلك قال للـ”كاباكا” وهما يتحدثان عن سامي: «أؤكد لك أن كثيرًا من الحالات المشابهة استطعتُ شفاءها، إنك لا تعرفني، ولكني معروف في كثير من الدوائر العالمية، وأقول لك ذلك بلا غرور»(3)، غير أنَّ هدفه لا يقتصر على العلاج فقط؛ بل يهمُّه معرفة أسباب المرض أو العقدة من أجل تنبيه الناس لها وتحذيرهم منها، ولذلك قال وهو يتكلم عن سفره إلى مدينة “بوسطن” بالولايات المتحدة الأمريكية: «ولم أكن في حاجة إلى حضور هذا المؤتمر؛ فإني أستفيد من قراءة بحوث الأطباء العالميين أكثر مما أستفيد من مناقشتهم، ولكني كنت في حاجة إلى الرحلة نفسها؛ كنت قد قضيت عامين أعمل خلالهما كل يوم، أغوص في نفوس الناس بعقلي وأعصابي؛ لأصل إلى هذا السِّرِّ الذي يسيطر على تصرفاتهم»(4).

وممَّا ساعد إحسان عبد القدوس على التَّفرُّد في هذا الجانب؛ قدرته على قراءة الواقع الاجتماعي من خلال السلوك الإنساني؛ على المستوى الفردي والجماعي وما بينهما من علاقة تأثير وتأثُّر، لذلك نجده يقول في رواية “بئر الحرمان”: «قصص الإنسانية عندما تتعرَّى من ثيابها، وترفع عن وجهها القناع؛ ذلك القناع الذي يفرضه علينا المجتمع، ثم تبدو النفس البشرية كما هي؛ غابة كثيفة موحشة، تنتصب فيها أشجار مفزعة؛ شجرة الخوف، وشجرة الأنانية، وشجرة الحقد، وشجرة الحيرة…»(5)، وهو يقصد بالشجرة “العقدة”؛ فشجرة الخوف تعني عقدة الخوف، وشجرة الأنانية تعني عقدة الأنانية.. وهكذا.

ونلاحظ أن طريقة إحسان عبد القدوس في تناوُل هذا الجانب من جوانب النفس الإنسانية؛ تكشف أثر البيئة بشكلٍ ملموسٍ، ذلك الأثر الذي يشير إليه إحسان حين قال عن نفسه وهو يذكر حياته بعد طلاق أبيه وأمه: «وقد أثَّر عليَّ اختلاف المجتمعَيْن اللَّذين أعيشهما تأثيرًا أساسيًّا في تكوين شخصيتي؛ مجتمع جدِّي المحافظ المتزمِّت في تديُّنه، ومجتمع أبي وأمي المتحرر المنطلق، وقد بدأت منذ وعيت وأنا أتساءل: من منهما المجتمع الصالح؛ مجتمع جدي أم مجتمع أبي وأمي؟ ووجدت نفسي حائرًا بين المجتمعين، وهو ما عوَّدني ألَّا أستسلم للواقع أبدًا إلا بعد أن أدرسه وأفكر فيه إلى أن أثور عليه أو أعترف به، وكنت منذ طفولتي أرفض التقاليد الاجتماعية؛ لأن التقاليد أيامها كانت تظلم أمي، ولكن أحدِّد تصرفاتي الاجتماعية بعد تفكيرٍ، وعلى مسؤوليتي الخاصة»(6).

فهذه الكلمات التي سطرها إحسان عن نفسه، تفسِّر ميوله إلى معالجة الأحداث الدرامية في رواياته بطريقة الطب النفسي، فهو يريد أن يقتحم أغوار النفس الإنسانية ويغوص في أعماق خباياها؛ لِكشفِ أسرار السلوك الإنساني، محذِّرًا من بعض المواقف التي تبدو عارضة أو قليلة الأهمية عند بعض الناس بينما يكون لها أثرها الكبير في نفوس أناسٍ آخرين، وملتمسًا في الوقت ذاته الأعذار لأناسٍ قد يبدو سلوكهم شاذًّا في عيون الناس؛ كما سنعرف من أحد الأمثلة في السطور اللاحقة.

فهو في تناوُلِه لهذه العُقَدِ يحرص على توجيه القرَّاء إلى حسن معاملة أصحابها؛ لأنهم لم يختاروها اختيارًا؛ بل تسرَّبت إليهم من خلال التنشئة الأسرية والمجتمعية وغير ذلك من عوامل فرضتها عليهم الأقدار، وأدَّت بهم إلى الخوض في صراعات تختلف أنواعها بحسب طبيعة كل عقدة وظروف كل مصاب بها.

وانطلاقًا من الأحداث الأسرية التي تعرَّض لها إحسان بسبب الانفصال الذي وقع لوالديه؛ نجده يرسم لشخصية سامي “المريض” عقدةً ناتجةً عن الاختلاف بين والديه أيضًا، مستخدمًا في ذلك مفردات الطب النفسي وأسلوب الطبيب الماهر في التشخيص الجاد في محاولات الوصول إلى حلٍّ جذريٍّ يقضي به على هذه العقدة.. يقول: «وُلِد سامي من أمٍّ زنجية وأبٍ أبيض، وقد سقطت هذه الحقيقة في عقله الباطن نتيجة تجاهُلِها، ثم بدأ الصراع بين عقله الباطن وعقله الواعي، كلٌّ منهما يريد أن يسيطر عليه، فإذا انتصر العقل الباطن أصبحت لسامي شخصية زنجية، وإذا انتصر العقل الواعي أصبحت له شخصية الرجل الأبيض، والعقل الباطن يعلم أن أمه هي هذه المرأة التي كانت تذهب إليه في صغره وتروي له أساطير الزنوج، ولو استمرت هذه المرأة في الذهاب إليه فربما استطاع العقل الباطن بمرور الأيام أن يلتقي مع عقله الواعي حول حقيقة واحدة، ولكن المرأة انقطعت عن الذهاب إليه، منعها أبوه، فنسيها سامي وسقطت هي الأخرى في العقل الباطن مع أصله الزنجي، إلى أن قابل (بيندا)، وكانت (بيندا) تشبه أمه، فأثارت رؤيتها عقله الباطن وحرَّكته ونصرته على عقله الواعي، فأصبحت تسيطر عليه شخصية الزنجي إلى أن يهدأ العقل الباطن، فيعود ويستقر عقله الواعي»(7).

وفي كثيرٍ من روايات عبد القدوس نجده يفضِّل موضوع العقدة كمرجعٍ يَرُدُّ إليه كثيرًا من تصرُّفات شخصياته، حتى إنه إذا وجد أمامه مردًّا آخر؛ فإنه يَذكره في موضِعِ الاحتمال معطوفًا على المردِّ الرئيسِ الذي يفضِّله، وهو العقدة أو المرض، بل إنه يرى -كما يقول في رواية “ثقوب في الثوب الأسود”- أن «الإنسان البدائي كإنسان هذا العصر، كان يعيش في مشكلة نفسية يحتاج إلى أن يهرب منها؛ مشكلة الخوف.. الخوف من الطبيعة، من الوحوش، من غارات القبائل الأخرى، من رئيس قبيلته.. فابتكر هذه الموسيقى العنيفة ليهرب بها من نفسه؛ من مشكلته»(8).

ونلاحظ إجمالًا أن عبد القدوس مِن خلال تناوُلِه مسألة العقدة النفسية في رواياته؛ يقوم بدور المصلح الاجتماعي، الذي يحبُّ أن يكون الناس بعيدين عن كل ما يؤرقهم أو يسبِّب لهم انحرافًا في الفكر أو السلوك، أو يسبِّب إشاعة شيء من ذلك عنهم نتيجة لسوء فهم الآخرين لهم؛ ومما يؤكد ذلك أن إحسان عبد القدوس يدافع في رواياته أحيانًا كثيرة عن المريض الذي يتحدث عن عُقدته، ويُبعِد عن خيال القارئ أيَّة شُبهات أخلاقية تجاه المريض، كما في رواية “بئر الحرمان” التي يقول فيها: «فإنجي في الثامنة عشرة من عمرها، وليس في حياتها أيَّة علاقة عاطفية تحدِّد اتجاهها الجنسي، فاتجاهها الجنسي ذهب إلى أمها، أو على الأصح استولت عليه أمها، وليس معنى ذلك أن هناك علاقة جنسية شاذة بين الأم وابنتها؛ كل ما هنالك أن الإحساس الجنسي اعتُقِل داخل عاطفتها نحو أمها، ولم يجد مَنْفذًا للانطلاق إلا في هذه القبلات التي تتبادلها مع أمها وتُفْرط فيها، فإذا عرفنا أن الأم أيضًا محرومة جنسيًّا لأنها سيدة شريفة محافظة، هجر زوجها فراشها؛ عرفنا لماذا كانت تشجع ابنتها على الإفراط في تقبيلها، بل تأكدنا أن الأم هي التي غرزت في ابنتها عادة التقبيل، وخصوصًا تقبيل الشفاه»(9).

 فهو لا يكتفي بتحذير المجتمعات من أيِّ سلوكٍ نحو أي فردٍ يمكن أن يؤثِّر في نفسه تأثيرًا سلبيًّا من خلال عملية التربية التي يقوم بها الآباء والأمهات، أو التعليم الذي يقوم به المعلمون.. وهلُمَّ جرًّا؛ بل نرى عبد القدوس بجانب ذلك يحذِّر من سوء تفسير سلوك المريض، الناتج عن عقدته، لذلك يصف أم الفتاة في هذه الرواية بأنها “شريفة محافظة”؛ فهو يدافع عمَّن فرَضت عليهم أحداث الحياة عقدةً ما، ولا سيَّما من ابتُلُوا بهذه العقدة بسبب أفعال غيرهم لا أفعال أنفسهم.    

ولا يفوت عبد القدوس أن يكشف للقارئ هدفه من اهتمامه بموضوع العقدة وكثرة تناوُلِه لها في رواياته، فقال على لسان الطبيب: «والسبب في تركيز اهتمامي على حالة سامي؛ أنها حالة لا تمثل فردًا؛ ولكنها تمثل مجتمعًا كاملًا قائمًا في إفريقيا وفي آسيا؛ هو مجتمع الأولاد المخلَّطين، الذين يختلط في عروقهم الدم الأبيض والدم الملون؛ أو مجتمع “الماتيس” كما يسمَّى في إفريقيا»(10).

ولا شك في أن ذلك التطلع والتوسع في هذه الظاهرة؛ كان سببه الأول معاناته الخاصة وما صاحَبَها من عوامل البيئة المحيطة.

الهوامش:

[1] انظر: عقدة نفسية، موقع (الطِّبِّي) الإلكتروني، الرابط:

https://altibbi.com/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AA-%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%A9/%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3/%D8%B9%D9%82%D8%AF%D8%A9-%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9

 [2] انظر: ثقوب في الثوب الأسود، إحسان عبد القدوس (ص85)، طبعة: مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب- مهرجان القراءة للجميع 1998م.

 [3] المصدر السابق (ص143).

 [4] المصدر السابق (ص9).

[5] انظر: بئر الحرمان، إحسان عبد القدوس (ص5)، طبعة: مطابع أخبار اليوم، مصر، 1997م.

[6] انظر: ثقوب في الثوب الأسود، إحسان عبد القدوس، المقدمة. 

[7] المصدر السابق (ص174- 175).

 [8] المصدر السابق (ص13).

[9] انظر: بئر الحرمان، إحسان عبد القدوس (ص77).

 [10] انظر: ثقوب في الثوب الأسود، إحسان عبد القدوس (ص246).

الدكتور حسن الحضري

كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم النقد الأدبي القديم

University Generations and Technology

#جامعة#أجيال#وتكنولوجيا

About the author

admin

Leave a Comment