بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة دينها و أفضل الصلاة و السلام على سيد معلّمي الخير محمّد و على آله و صحابته أجمعين.وردتنا الكثير من المراجعات عن “الصوفية” و معناها و هل هي مذهب في الإسلام ؟ و تضمنت هذه المراجعات كثيرا من الإتهامات و الاستنكارات و التكفير أحيانا لمجرد إسم “التصوف” و اليوم نرد على هذه المراجعات مجتمعة إن شاء الله تعالى.”الصوفية” ليست مذهبا إسلاميا و ليست حتى مدرسة في مذهب إسلامي هي اصطلاح أطلقه الأولون على “الوسائل التربوية” الفردية و الجماعية التي اتبعها و لا يزال يتبعها “علماء المسلمين” لتربية الناس و تدريب النفوس على {محبة الله تعالى}.و في التفصيل فإن الناس جميعا على وجه الأرض “عبيد” بطريقة أو بأخرى لظروف قاهرة تحيط بهم و ترافقهم من ميلادهم إلى مماتهم ، و هذه الظروف هي “سيدٌ” مسيطر و الناس خاضعون لها و أعظم هذه الظروف هو : “الــــــقـــــــــــانـــــــــــون” .فالبشر جميعا و جميع المخلوقات على وجه الأرض خاضعون لقوانين تنظم العلاقات بينهم و سلطة “القانون” بنيت أساسا على “الخوف” من عواقب انتهاك القانون سواء أكانت عواقب طبيعية أم عواقب مصطنعة بيد الإنسان و على “رجاء السلامة” و تبعا لذلك الطمع بمنافع “الأمان” حال الالتزام بطاعة هذه القوانين .و “الخوف” و “الرجاء” و “الطمع” مشاعر و أحاسيس إنسانية و بهائمية أيضا و بما أن الجميع على وجه الأرض “عبيد” فنصل إلى أن : جميع “العبيد” يخضعون لسادتهم و هم : (القوانين و القائمون عليها) بسلطان دائم لإحساسين هما “الخوف” و “الرجاء” و بـ “الطمع” تبعاً للرجاء.إلا “العبيد المسلمون” فإنهم يخضعون لـ “سيدهم” و هو “الله” بسلطان ثلاثة مشاعر إنسانية و هي أولا “الحبّ” ثم يأتي من بعده “الخوف” و “الرجاء ضمنه الطمع” و لقد تواتر هذا المعنى عن “النبي صلى الله عليه و سلم” كما ورد عن َأنسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا” ، و وظيفة “الصوفية” هي تحويل “المسلم” من “المسلم لله الخائف الرّاجي مولاه ” إلى “المؤمن بالله العاشق لمولاه” ، إذ لا إيمان من دون هذا العشق – كما هو بيّن في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم – و من دون الإيمان لا سعادة بالإسلام لا في الدنيا و لا في الآخرة ؛ و هذا يعود إلى سرّ عظيم إلا أنه ذائع يعرفه جيدا “علماء المسلمين أهل الأسانيد” و هذا تفصيله :إن العابد بالخوف و الرجاء يتعامل بلا شعور مع أوامر و نواهي “السّيد” على أنها تكليف و إرغام تحت تهديد ما و بالتالي فهو يقوم بهذه “الطّاعات” بحدها الأدنى في غالب الأمر و هو لا يسأل إلا عن الحد الأدنى من التكاليف الذي إن قام به نجا من “العقاب” فلا يجتهد في طاعة مولاه إلا بهذا المقدار ، و هو في غالب الحال يسقط في المخالفة و المعصية لسيده لأنه يسير دوما قريبا من حافة العصيان ذلك أن الحد الأدنى للطاعة ملاصق تماما لحد العصيان و تأتي نفس الإنسان و وساوس “الشيطان” فتدفع المرء دوما نحو العصيان و تكره الخضوع و الطاعة فإذا ما أضفنا للنفس و الشيطان الاختبارات التي يسلطها الله على عباده من الابتلاء بالخير و الشر فإننا نجد أن “المسلم” الخائف الرّاجي(فقط) في غالب أمره سيتحول مع تكرار انتهاكاته إلى “عبد عاص” عاتٍ يحتال على أوامر “مولاه” ليتخلص ما استطاع من أعبائها الثقيلة على قلبه و نفسه ، إلا أن “العبد العاشق لمولاه” لا تجد نفسه الراحة إلا في طاعة من يعشق و لا يتعبها شيء قدر ابتعادها عن ما يرضيه ، و الأهم من هذا أن “العبد العاشق لمولاه” يسأل عن كل ما يقربه من “مولاه” و يتحراه بدقة ليعمل به بكل إخلاص غير مبال بغيبته عن أعين الرقباء أو بحضور من يراقبه و هو لا يرتجي من عمله شيئا سوى أن يرضى عنه مولاه ، و هو يسأل عن كل ما يبعده عن مولاه فيتحرى الفرار منه و تجنّبه و تنظر نفسه إلى ما يبغضه “مولاه” نظرة العدو لعدوه و تتعامل مع مكروهات “المولى” على أنها سمّ زعاف تشقى بها النفس إن تناولتها و لا تلتذ بها أبدا و لو كانت تعد بين الناس أعظم الملذات و لو كانت نفسه تلتذ بها قبل أن يتحكم بها سلطان عشق “المولى الجليل” أعظم التلذذ .و بسبب هذا “الحبّ” فإن “العبد العاشق لمولاه” لا يحتاج إلى “شُرَط” و لا إلى “قضاة” أو “جلادين” و لا إلى “بصّاصين” يقفون له بالمرصاد و يراقبون سره و علانيته ليردعوه عن معصية “مولاه” فإن وقع في المعصية – و نادرا ما يحصل هذا – فإنه سيبادر قريبا جدا للتوبة و لفعل أي شيء يطفئ عنه غضب “مولاه” و يرجعه إلى حظيرة الطائعين ، و لعل أوضح الأمثلة على هذا “العبد العاشق لمولاه” هو ما كان من “ماعز” و “الغامدية” رضي الله عنهما عندما اعترفا على أنفسهما بـ “الزنى” و جاءا رسول الله صلى الله عليه و سلم تباعا و طلبا منه أن “يطهرهما” من معصيتهما فرجما حتى الموت و كانا يمكنهما أن لا يأتيا أصلا فثبوت “الزنى” في الشرع على أحد ما قليل الاحتمال جدا بالنظر لسرّية الجريمة و لصعوبة شروط إثباتها (أربعة شهداء “عدول!”رأوا ميلا في مكحلة) .و هذا “العبد العاشق لمولاه” يعرف جيدا صفات “مولاه” و يعلم جيدا ما يرضيه و ما يغضبه في أدق التفاصيل و هل “الشريعة” (القانون الإسلامي) كلها إلا بنود تتضمن ما يرضي الله و ما يغضب الله ؟! و بالتالي فأن هذا العبد يفهم جيدا جدا و يحفظ جيدا جدا كل ما أمر به “مولاه” و كل ما نهى عنه و هذا يعني بداهة أنه “عبد فقيه عالم بالدين و الشريعة” و من الأمثلة الواضحة على هذا ما أثبته الرواة من أن “عمر بن الخطاب” ولي “القضاء” في زمن “الصديق” رضي الله عنهما و مكث عاما كاملا في “المسجد النبوي” لا تأتيه خصومة واحدة .لقد علّم “رسول الله صلى الله عليه و سلم” أصحابه الكبار من “المهاجرين الأوائل” كيف يعشقون “الله المولى الجليل” على مر ثلاثة عشر عاما قضاها في “مكة” حين لم يكن قد تنزل من الشريعة إلا النهي عن الشرك و الغدر و البغي و البهتان ثم استعان بهم ليعلم “الأنصار” هذا “الحبّ” و حين تنزلت الشريعة أطاعها “الصحابة” رضي الله عنهم طاعة المحب لمحبوبه و لم يعترض عليها معترض و لم تسجل حالات عصيان في عصر النبي صلى الله عليه و سلم إلا ما ندر مما لا يجاوز أصابع اليد الواحدة .و قد يعترض علي البعض لاستعمالي لفظة “العشق” و معناها في العربية “الحب الشديد الغالب” و أقول : لقد استعملت هذا اللفظ فقط لأقرب من الأذهان معنى “الحبّ” الذي يحمله القلب المؤمن لـ “الله” ثم لـ “محمّد صلى الله عليه و سلم” و الواقع أن هذا “الحبّ” أعظم بكثير جدا من أشد “العشق” الذي تعرفه النفوس .فإذاً “الحُبّ” هو السبيل الوحيد إلى قمة الإسلام و الخضوع لله ألا و هي “الإيمان” الذي حدد رسول الله صلى الله عليه و سلم حده الأدنى بقوله : “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به” و هل الهوى سوى “الحبّ الذي لا يُغلبُ ” ؟و قد يقول البعض : “الحبّ” كالطبع لا يُعلَّم فنرد عليه بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : “إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلّم” ؛ و الحلم طبع و مع ذلك يمكن تعلّمه.و من هذا نفهم أن تعليم “الحبّ” من العلوم التي تواترت عن “رسول الله صلى الله عليه و سلم” و هو ليس علما سرّيا كما يزعم بعض الجهلة و الغلاة من منتسبي “الصوفية” و إنما هو علم مبثوث في جميع آيات “القرآن” و في جميع نصوص “السنّة” الشريفة و لكنه علم يمارس “عمليّا” و لا يمكن تلقينه “لفظيّا” لأنه ببساطة تعليم تطبيق الدين بشكل عملي بعد تلقيه “نظريا” أو “لفظيا” و هو دروس عملية يتدرب عليها “الطالب” عند أستاذه الذي ورثها بدوره عن أستاذه الذي ورثها بدوره عن أساتذته بالتواتر إلى الأستاذ الأعظم “محمّد” صلى الله عليه و سلم و لأن هذه الدروس تهدف إلى إصلاح “سرّ” المتلقي فلذلك يغلب على أدائها طابع الخصوصية بشكل عام ، فلكل نفس من نفوس البشر طبيعة و طاقة و إمكانيات تختلف سواها و هذه الدروس تستهدف الفرد بعينه و الأفراد شعارهم “الخصوصية” أو “السرّية”.و نفهم مما سبق أيضا أن هذا العلم يستحيل أن يوجد علماء متخصصون فيه فقط فلا يتقنون سواه لأن هذا العلم ليس سوى تطبيق عملي لعلوم أخرى هي “علوم الدين” فلا يوجد إذا شيوخ و علماء لـ “التصوف” وحده فإن زعم هذا زاعم فهو زعم كاذب لا محالة و بمراجعة ما سبق نكتشف أنه لا وجود في الواقع لـ “شيوخ الطرق الصوفية” أو “مشيخة الطرق الصوفية” استقلالا عن “مشيخة الإسلام” (الفقهاء) فهل يتصور عاقل أن يوجد مدرس “عملي” لعلم من العلوم و هو لا يعرف شيئا عن هذا العلم؟!!.. و لعله بات واضحا لذي عينين من أين أُتيت “الصوفية” ؛ فلقد ادعى دجاجلة و محتالون أنهم محض “شيوخ طرق” كانت أهم صفاتهم أنهم جهلة لا يعرفون من دين الله إلا أماني و إن هم إلا يظنون فراحوا يروجون لدعواهم هذه بممارسة ما درج “العلماء” على ممارسته من التدريبات (العملية) لطلابهم و مريديهم و محبيهم ليبلغوا بهم درجة “الحبّ لله” كـ “مجالس الذكر” و “مجالس مديح النبي صلى الله عليه و سلم” و “أوراد الأذكار” (المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم في العموم) و “العزلة للتفكر” و “اعتياد الطاعة التامة للأستاذ” ، و لكن هؤلاء الدجاجلة المدعون لم يصلوا إلى تحقيق “الحبّ” لأنهم يعبدون الله تعالى بالجهالة و الضلالة و دون ضوابط العلم و هذا سبيل شيطاني محض و لهذا نجد أن عامتهم اتصلوا في نهاية الأمر بـ “الجنّ” قولا واحدا ثم لبّسوا على الجهلة أحوالهم بما يظهرونه من “خوارق العادات” التي يتدربون عليها و يقومون بها بمعونة – واضحة مؤكدة – من “الجن” و يزعمون أنها “كرامات” كـتلك “الكرامات” التي يظهرها الله تعالى لـ “محبيه الصادقين” بغير سؤال من هؤلاء المحبين و لا تعمد و لا تفاخر و لا تدريب كما يفعل هؤلاء “المشعوذون” المنتسبون إلى “الصوفية” زورا و بهتانا. و لقد حفلت العصور السابقة بهؤلاء و صنف كثير منهم مصنفات زعموا أنها في “التصوف” و نحلوا بعضها لكبار العلماء كـ “الإمام الغزالي” و لقد امتلأت هذه الكتب بالزندقة و الافتراءات و الأكاذيب و الدجل و السّحر فانخدع بها جمهور من البسطاء و راجت حتى على بعض “طلاب العلم” إلى أن ظن كثير ممن لا يعلم أن “الصوفية” هي ما تتضمنه هذه الكتب و ما يمارسه هؤلاء الزنادقة و الواقع أن ديننا و من ضمنه “الصوفية” من هذا الإجرام براء براءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة و السلام .و يتضح لنا بعد ما سبق معنى قول مشايخنا رحمهم الله : “من تقفه و لم يتصوف تفَسّق و من تصوف و لم يتفقه تزندق”و أحب أن أوضح سبب استعمال كلمة “الصوفية” للدلالة على هذا العلم فأقول : قماش “الصوف” كان اللباس الشائع الأول و الأرخص في “الجزيرة العربية” لأن تربية “الغنم” كانت الحرفة الأولى لأهل هذه “الجزيرة” و كانت المنسوجات “القطنية” و “الحريرية” غالية الثمن و لم تكن متوفرة للجميع ، و لهذا كان “الصوف” أغلب لباس “رسول الله صلى الله عليه و سلم” و أصحابة رضوان الله عليهم جميعا ، و معلوم أن “النبي صلى الله عليه و سلم” ربّى أصحابه على عدم التوسع في المأكل و المشرب و الملبس و غلب التقشف و الزهد في ملذات الدنيا على سلوكه و سلوكهم و عندما انتقل كبار علماء “الصحابة” إلى البلاد المفتوحة و تولوا التدريس و التعليم لم يتخلوا عن ما عودهم عليه أستاذهم “صلى الله عليه و سلم” و منه لبس الأردية “الصوفية” في جَلَواتهم و تبعهم تلامذتهم من التابعين في هذا التقليد و بقي في من تلاهم ، و لكن هؤلاء العلماء الكبار الزاهدين كانوا قلة إذا ما قارنا عددهم بالعامة – الذين اعتادوا لبس “القطن” غالبا – و بهذا تميز أغلب العلماء في “صدر الإسلام” عن عامة المسلمين بأردية “الصوف” فلقبهم العامة بـ “الصوفية” ثم ضاق نطاق من يطلق عليهم هذا اللقب من “العلماء” و انحصر في زهادهم المشهورين فأطلق لفظ “الصوفية” اصطلاحا على علم “تربية النفوس على محبة الله” ؛ و إن من أشهر أردية “الصوف” جبّة “رسول الله صلى الله عليه و سلم” ثم “مرقعة عمر” رضي الله عنه و أرضاه .. و أختم بحقيقة لا ينكرها إلا جاهل عميق الجهل أو حاقد شديد الحقد و هي أنه لا يوجد عالم واحد من فقهاء الإسلام المشهورين منذ عصر “التدوين” و “التصنيف” كالإمام “ابن جرير الطبري” و “النووي” و “الغزالي” و “الشاطبي” و إلا و صنف رسائل و كتبا في “التصوف” و تواتر عنهم العناية بهذا العلم إلى عصرنا هذا و لم يشذ عنهم إلا نفر يسير لا يعتد بهم و لا يُلتَفت إليهم .
الأستاذ الشيخ عبد الله الخليل التميمي
عنيت بنشره كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أجيال وتكنولوجيا الأمريكية
GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY