كيف تبنى الأوطان؟ – التحرِّي والتثبت –
من أسس بناء الدولة أيضاً التحرِّي والتثبت، وهو التأكد من صحة الخبر قبل قبوله أو نشره، فمن وهبه الله تعالى صفة التحري والتثبت فقد ميزه سبحانه بالرزانة والحكمة وبرجاحة العقل، وضده تماماً من اتصف بالعجلة والتسرع والطيش مما يدل على خلل في تفكيره ونقص في عقله، لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح من يتصف بالتأني وعدم العجلة، فقال: (التَّأَنِّي من اللهِ، والعجلَةُ من الشيطانِ) [البيهقي في السنن الكبرى].
فعلى المسئول أن يتثبت مما يرد إليه من اتهامات في حق الآخرين لئلا يصيب قوماً بجهالة، فكم من بريء عوقب ظلمًا بسبب التساهل في التحريات والتثبت من الادعاءات، قال الله تعالى حكاية عن نبيه سليمان عليه السلام مخاطباً الهدهد: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]، وقد حذَّرنا القرآن الكريم من اتهام البُرءاء، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رَأَى عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقالَ له: أَسَرَقْتَ؟ قالَ: كَلَّا وَاللَّهِ الذي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقالَ عِيسَى: آمَنْتُ باللَّهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي).
فنبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام صدق الرجل في حلفه، وكذَّب عينه فيما ظهر له من كون المأخوذ سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق، أو ما أذن له صاحبه في أخذه، ونحو ذلك.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في تأويل الحديث: “والحق أن الله تعالى كان في قلبه -أي عيسى عليه السلام- أجلَّ من أن يحلف به أحد كاذباً، فدار الأمر بين تهمة الحالف وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم صدق إبليس لما حلف له أنه له ناصح”.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بَعَثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الحُرَقَةِ مِن جُهَيْنَةَ، قالَ: فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قالَ: ولَحِقْتُ أنَا ورَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلًا منهمْ، قالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قالَ: فَكَفَّ عنْه الأنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ برُمْحِي حتَّى قَتَلْتُهُ، قالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَقالَ لِي: (يا أُسَامَةُ، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما كانَ مُتَعَوِّذًا، قالَ: أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! قالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلكَ اليَومِ) [رواه البخاري].
قال النووي رحمه الله تعالى: “فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر”.
فالحديث يدعو إلى التحري والتنقيب والتثبت خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بإزهاق النفس، لذا جاء عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه.
ويُخبِرُ حبر الأمة عبد الله بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ عامِرُ بنُ الأضبَطِ كان يَسوقُ قَطيعًا صغيرًا من الغَنَمِ، فلَحِقَه المسلمونَ وكانوا قد خرجوا في سَريَّةٍ، وفيهم أبو قَتادةَ الأنصاريُّ رَضِيَ اللهُ عنه، فمرَّ بهم عامِرُ بنُ الأضبَطِ بغَنَمِه، فقال: «السَّلامُ عليكم»، فقتَلُوه وأخذُوا غُنيمتَه، فأنْزَلَ اللهُ تعالَى قولَه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94].
فالتسرع هنا وسوء الظن من بعض الصحابة أدى بهم إلى القتل قبل التثبت والتحري من حال الرجل، لذا أنزل الله سبحانه الآية آمرة المؤمنين من التثبت والتحقق وترك سوء الظن.
وها هو الصديق رضي الله عنه يضرب أروع الأمثلة في حكمته وتثبته وتحريه، فحين بلغه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقسم حينها الصحابة ما بين مصدق للخبر ومكذب له، نزل من أعالي المدينة ولم يكلم أحد، ولم يتدخل في الأمر إلا بعد دخوله غرفة السيدة عائشة رضي الله عنها وتيقن له وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يتعجل في الأمر ولم يبت فيه إلا بعد التحري والتثبت.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَاتَ وأَبُو بَكْرٍ بالسُّنْحِ، فَقَامَ عُمَرُ يقولُ: واللَّهِ ما مَاتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أيْدِيَ رِجَالٍ وأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أبو بَكْرٍ فَكَشَفَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أيُّها الحَالِفُ، علَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ) [رواه البخاري].
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كَانَتْ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: (شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ)، قُلتُ: إنَّه إذًا يَحْلِفُ ولَا يُبَالِي، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بهَا مَالًا وهو فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبَانُ)، فأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذلكَ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هذِه الآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
وعلى الأمة أن تحذر من الإشاعات فإنها خطر عظيم، وشر كبير على الأفراد والأسر والأمم، ولعل من أشهر هذه الإشاعات وأخبثها حادثة الإفك المبين، ذلكم الإفك والكذب الذي أشاعه المنافقون بين الناس، والذي اتهمت فيه عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وهي الطاهرة العفيفة، الصّدّيقة بنت الصّدّيق، التي تربت في بيت الطهر والعفة والنقاء والحياء.
تلكم الحادثة التي فُتِن فيها بعض المسلمين، وتحدثوا فيها دون تثبت ولا تبين، وما زالت هذه الإشاعة الكاذبة تعمل عملها إلى الآن، ما زال الشيعة الخبثاء يصدّقونها ويروجون لها، ويتهمون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، رغم أن الله قد بَرّأها من فوق سبع سماوات، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
ومن النماذج العملية لتحقق التوازن في هذا الشأن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في رعيته قائلًا: «ألا إني -والله – ما أرسل عُمَّالي إليكـم ليضـربوا أبْشـارَكم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلُهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فَلْيرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصُّه منه؟ قال: إي والذي نفس عمرَ بيده؛ إذًا لأقصَّنَّه منه، أنَّى لي لا أقِصُّه منه! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ من نفسه؟
ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تُجَمِّروهم فتَفْتِنُوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتُكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم». [أخرجه أحمد].
فمن العدل الذي تقوم على أساسه الأمم عدم المحاباة والتثبت، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
إن التحري والتثبت يعتبران من صفات العلماء الحكماء، وفيه وقاية من التُّهم والإشاعات الكاذبة وبُعْدٌ عن سوء الظن الذي يفضي للندامة التي قد تؤدي إلى إزهاق النفوس وإراقة الدماء.
فالاستفسار وتوجيه الأسئلة، واللجوء للتفتيش، والمراقبة، وجمع المعلومات، إضافة للمشورة والاستخارة من أهم أساليب التحري التي يُتوصل بها لمعرفة الحقيقة قبل اتخاذ القرار.
لذا على كل فرد في المجتمع، كلٌ في مجاله، أن يتثبت ويتبين في جميع أموره، وأن يبذل كل ما في وسعه وطاقته من أجل الحفاظ على أمن الأمة واستقرار المجتمع.
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY
