بقلم الأستاذ الشيخ عبد الله الخليل التميمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و السلام على سيد الأنام سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .أما بعد فلقد قرأت كثيرا من الأبحاث و الفتاوى حول حكم التصوير بنوعيه : الحديث الإلكتروني ، أو القديم بالحجرة المظلمة “القمرة” (الكاميرا) و لقد كثر الجدل حول هذا الأمر فاستخرت الله تعالى و شمرت عن ساعد الجد لتبيان حكم هذا المسألة في المذاهب السنية الأربعة و ضمن مجال الإجماع و الإتفاق و بعيدا عن التمحل و التطاول على مقام الإجتهاد أو محاولة تفسير النصوص المروية من كتاب الله و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، سائلا المولى عز وجل التوفيق و السداد .مقدمة : التصوير و معناه المتعارف عليه في شرعنا العظيم : يتشكل التصوير من عمل عدة عوامل تشترك في صناعة الصورة ، و هي :العامل الأول المصور : و هو إنسان يدخل إلى عينه ضوءٌ منعكس من على شيء أمامه ، فتنتشكل في عينه صورة هذا الشيء ثم تنتقل الصورة إلى ذهنه فيراها ، ثم ينوي أن يصنع رسما يشبه هذه الصورة ، على لوح خارج عنه و عن الشيء الأصلي الذي رآه ، بحيث يستطيع لاحقا أن يسلط الضوء على هذا اللوح فينعكس الضوء المسلط إلى عينه فيرى بذهنه ما يشبه الصورة التي رآها لحظة نظرَ إلى الشيء الأصلي الحقيقي الذي انعكس عليه الضوء أولا. العامل الثاني آلات التصوير : و هي : أولا عين المصور و ذهنه . ثانيا يده أو حتى فمه أو رجله التي يحمل بها الريشة أو القلم أو السكين التي سيشكل بها ما يشبه صورة الشيء الذي رآه . ثالثا الحبر الذي سيشكّل به المصور رسما يشبه صورة الشيء الذي رآه . رابعا اللوح الذي سيشكّل عليه المصور رسما يشبه صورة الشيء الذي رآه .ثالث العوامل الرسم أو “الصورة” المشابهة للشيء الأصلي التي نتجت عن عمل التصوير الذي شارك فيه إنسان و آلات .رابع العوامل الضوء المنعكس على الرسم أو “الصورة” التي صنعها الإنسان و آلاته المشابهة للشيء الأصلي .خامس العوامل عيون الناظرين إلى الضوء المنعكس من الرسم أو “الصورة” التي صنعها الإنسان بآلاته المشابهة للشيء الأصلي المنظور إليه .هذا أساسا هو التصوير الذي تحرم الأحكام الشرعية الفقهية السنية أنواعا من منتجاته و تصنفها ضمن المحرمات الكبرى و كبائر الآثام ، و قبل تبيان الحكم الشرعي في التصوير بأنواع منتجاته و كيفية صناعته سأتحدث عن تطور عملية التصوير منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم و إلى وقتنا هذا . بقي التصوير عملا يدويا يعتمد على مهارة الرسام أو “المصور” في رسم الخطوط على اللوح و اختيار الألوان و مزجها إلى أن اخترع البشر التصوير الفوتوغرافي ، أو التصوير باعتماد الحجرة المظلمة و هو تقليد لآلية عمل العين الطبيعية في استقبال الضوء .هذا التصوير يعتمد على جعل الضوء المنعكس من على شيء ما يدخل إلى حجرة مظلمة عبر عدسة ، كما هو الحال في العين الإنسانية ، فيصل الضوء إلى لوح جلاتيني مطلي بمركبات من الفضة ، هذه المركبات تتأثر بالضوء ، فتتحول إلى مركبات أخرى ملونة بدرجات متفاوتة بحسب قوة الضوء الذي تتعرض له ، ثم يتم نقل عكس الرسم الذي يتشكل على اللوح الجلاتيني إلى ورق مقوى بطريقة الطبع ، فينطبع على الورقة رسم يشبه الشيء الذي تم تصويره .احتار الكثير من الفقهاء في الحكم على هذا النوع من التصوير ، و ذهب أكثرهم إلى قياسه بالمرآة و اعتباره مجرد “حبس للضوء” ، أي مرآة لكنها تحبس الضوء ، و ذلك مبلغ علم هؤلاء “الفقهاء” الذين بحثوا عن ذريعة لاستثناء هذا النوع من التصوير من أن يصنف شرعا تحت اسم “تصوير” و القصد كان طلب إباحته لأن سلاطين السوء طلبوا منهم هذا ، و لم يكن القصد البحث عن حكم الله تعالى في هذا العمل ، و لكنهم لجهلهم أصلا بموضوع بحثهم و فتواهم زعم زاعمهم أن هذا “حبس للضوء” و لم يعرفوا أبدا أن أحدا لا يستطيع أن يحبس الضوء . و الواقع أن هذا التصوير يتشكل من نفس العناصر التي يتشكل منها التصوير اليدوي ، و هي المصور الذي يختار المشهد و يعمل على نقل صورة منه إلى لوح بواسطة حبر و قلم ، و هنا كانت الصفيحة الجلاتينية السوداء هي اللوح و مركبات الفضة هي الحبر ، و العدسة و الضوء و الحجرة المظلمة هي الأقلام التي رسمت الصورة بمركبات الفضة ، ثم انتقلت الصورة من اللوح الجلاتيني إلى لوح من الورق بعملية التحميض و الطباعة التي هي تماما رسم على ورق بآلة تعمل عمل القلم و بحبر من مركبات الفضة .هي إذا صورة بنفس الوصف الشرعي الآنف الذكر أولا ، و لا تختلف عنه بشيء لا من حيث المبدأ و لا من حيث النتيجة.ثم ظهر التصوير الإلكتروني ، و يقوم أيضا على جعل الضوء ينعكس من على جسم إلى عدسة من الزجاج و منها إلى لوح مكون من لاقطات كهربائية تتأثر بالضوء و ترسل إشارات إلى دارات كهربائية ، هذه الدارات تحتفظ بتشكيل معين للنبضات الكهربائية الكثيرة المُستلمة من اللاقطات ، ثم ترسل إلى هذا التشكيل إلى حافظة ، ثم لرؤية الصورة تُرسَل على هذه الحافظة نبضات كهربائية أخرى لتتشكل على حسب التشكيل المحفوظ في الحافظة ، فتعود لتشغل لاقطات ترسل إضاءة إلى بلورة زجاجية أو من السيليكون (شاشة عرض) ، هذه الإضاءة تراها العين رسما أو “صورة” مشابهة للجسم الذي انعكس منه الضوء إلى العدسة آنفا ، الجسم الذي تم رسمه أو “تصويره” ، فإن أرسلت مرة أخرى نبضات الكهرباء إلى الحافظة أضاءت البلورة و ارتسم عليها رسم الشيء الذي تم رسمه شبيه له أو ما نسميه “صورة” له . العدسة الزجاجية و اللاقطات و النبضات الكهربائية تقوم مقام ريشة و حبر الرسم ، و الحافظة الكهربائية و البلورة الزجاجية (شاشة العرض) تعملان معا عمل اللوح ، و المصور هو الذي يستعمل هذه الأدوات ليصنع الرسم أو “الصورة”.هي أيضا نفس الصورة التي شرحت مكوناتها و محدداتها حسب الوصف الشرعي في أول الرسالة .و حتى في الحالة التي تسمى “البث المباشر” ، فإن آلة التصوير الإلكترونية ترسم صورة للشيء المصوّر ثم تحتفظ بالصورة للحظات في الحافظة ثم تعيد بث الصورة لتضيء على بلورات “شاشات” كثيرة لا حصر لها من هذه العجالة تنتفي كل الشبهات التي يحاول البعض استعمالها لفصل التصوير الحديث عن التصوير القديم الذي كان معروفا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي جاءت الأحكام الإلهية بتحريم أنواع منه ، و طبعا لا فرق بين الصور الثابتة أو المتحركة فهي كلها تدخل نفس التصنيف ، لأن الصور المتحركة “الأفلام” هي صور ثابتة كثيرة تمر أمام عين المشاهد بسرعة كبيرة فتظنها العين متحركة . حكم التصوير : في المذاهب الإسلامية الأربعة بالإجماع التصوير جائز تماما بل هو عمل طيب مشكور ، باستثناء تصوير كامل جسم الإنسان أو الحيوان الحي فهو يعتبر في دين الإسلام جريمة كبرى و بل من أكبر الكبائر ، و هو عمل محرم قطعا. إلا أن تصوير الجسم الحي كاملا لا يدخل تحت طائلة التحريم المعتادة ، فلا تحرم أدواته و وسائل صناعته ، و للبيان فإن المذاهب كلها باستثناء الحنابلة تحكم بحرمة تصوير الإنسان أو الحيوان كاملا أو صورة أي جزء منه ، أما الحنابلة فأجازوا صورة مجتزئة بحيث أنه لا يمكن أن يعيش الجزء المصور منه دون بقية الجسد ، كصورة الرأس فقط أو الرأس و الصدر دون منتصف البطن ، أو صورة لشق واحد من الجسم .و كما بينت آنفا لا يحرم شيء من التصوير إلا هذا النوع تحديدا ، فتصوير الأشياء الجامدة و النباتات و البحار و السماء و حتى الخيالات المحضة (طبعا عدا تصوير الأجسام الحية كاملة حقيقية أو متخيلة) كلها تجوز قطعا و لا حرج فيها و تزيين البيوت و حتى المساجد و المصاحف بهذه الصور جائز و محبب و فعله السلف و أقره علماء الأمة جيلا بعد جيل بغير نكير.إلا أن الإجماع وقع على تحريم تزيين المساجد و الكتب و المصاحف بصور لأعضاء الأجسام الحية و هذا يتفق الحنابلة فيه مع بقية المذهب السنية . تصوير الإنسان الكامل أو الكائن الحي الكامل عمل محرم و اتخاذ الأجر عليه محرم أيضا ، و منتجاته لا ثمن لها لأنها محرمات و لا يجوز شراؤها و لا بيعها و لا تعليقها و يجب أن تتلف بتقطيعها أو طمسها تماما أو على الأقل بحجب الضوء عنها فلا ترُى حين يُقدر عليها .حكم النظر إلى صور الأجسام الحية الكاملة :لا يوجد في الشرع الإسلامي و لا في تراثنا الفقهي الموروث ما يدل أو يوحي بتحريم النظر إلى هذه الصور أو ما يدخلها تحت عموم الأمر الإلهي للمؤمنين و المؤمنات بغض البصر عن المحرمات ، حتى لو كانت هذه الصور مشابهة لعورات الإنسان أو تنعكس منها إلى العين ما يشبه إنسانا عاريا مكشوف العورة ، و حتى أولئك الذين قاسوا التصوير الحديث على المرآة لا يجدون في النصوص الفقهية ما يشير إلى تحريم النظر إلى صورة إنسان أو حتى عورة إنسان منعكسة في ماء أو مرآة سواء أكانت كاملة أو ناقصة ، و صورة الإنسان في المرآة غالبا متحركة فلا عمل لحالة الثبات أو الحركة في هذا الحكم ، لكن هذا ليس نهاية المطاف في هذه المسألة الكبيرة ، أخي القارئ تابع القراءة للنهاية.ما هو إذاً حكم الشرع في الصور المتحركة “الأفلام” التي تعرض نساء سافرات و رجالا عراة يزنون و يفعلون الفواحش بداية من السفور و إبراز العورات و انتهاء بفعل الزنا و أعمال قوم سدوم ؟ و هل النظر إلى هذه الصور محرم ؟.الجواب على هذا يحتاج إلى تفصيل مهم يتعلق بكيفية إنتاج هذه الصور و صناعتها :مثلا الصورة التي تعرض امرأة عارية تبرز سؤأتها و فرجها لا بد لصناعتها مما يلي :أولا امرأة فاحشة الوقاحة و غالبا ما تكون مومسا تبيع متعة جسدها بالمال ، و هي تتقاضى على السماح بتصويرها أجرا ماليا تعيش منه و تتقوى به على المزيد من الزنا و الفاحشة ، و لا عمل هنا لـدِين هذه المومس لأن الزنا محرم و كبيرة كبرى سواء أكان من مسلم أو غير مسلم.ثانيا فريق يعملون على تصوير هذه المرأة المومس و إبراز عورتها أو فعلها للزنا ، و هؤلاء منهم المصور و منهم عامل الإضاءة و منهم الرجال الزناة أو النساء السحاقيات الذين يشاركون هذه المومس فعل الفاحشة التي يتم تصويرها .ثالثا المسوقون و البائعون و الذين يمولون هذه العملية و يأخذون الصور المتحركة لبيعها للناس و التربح من ثمنها أو أجر النظر إليها و مشاهدتها .هؤلاء كلهم مجرمون في دين الله بجرم الزنا و القوادة ، و هم زناة ديانة و أيضا دعاة لنشر الفاحشة ، علما أن جرم الدعوة لنشر الفاحشة أعظم من الزنا و من الفاحشة نفسها ، و كل هؤلاء لم يكونوا ليفعلوا أفعالهم و يستمروا في فعلها لولا الأموال التي يدفعها لهم أولئك الذين يشترون تلك الصور أو يستأجرونها ، و هذا يبين أن كل من يشتري منتجات صانعي هذه الصور سواء أكانت صورا كاملة أم مقطوعة مشاركٌ لهؤلاء مشاركة تامة في جريمتهم بل هو واحد منهم ، فهو شريك في جرم القوادة و الزنا أو فعل قوم سدوم لعنهم الله ، سواء أشترى نسخة أو استأجرها أو باعها أو أجّرها أو سوّقها ، هؤلاء كلهم مجرمون تماما كتلك المومس التي تعرت أمام الرجال ليزنوا بها أو ليصوروا سوأتها .و يدخل تحت هذا التصنيف استئجار بث مصانع الصور المتحركة بكل أنواعها (الإشتراك في المحطات التلفزيونية) أو محركات بث الشبكة العنكبوتية التي تبث صورا لنساء سافرات أو رجال عراة ، هذا كله محرم و مشاركة لتلك السافرات أو الزانيات في جريمتهن و عون لهن و لمن يشغلهن للإمعان في هذه الجريمة و إنتاج المزيد من تلك الصور ، علما أن جرم السفور لا يقل عن جرم الزنا بحال لأنه مجاهرة بمعصية تعتبر شرعا من مقدمات الزنا .لولا أولئك الزبائن المشترون أو المستأجرون لم يكن لهؤلاء الصناع و المصورون أن ينتجوا صورة واحدة و لا أن يستأجروا مومسا أو سدوميا يفعلون الفواحش عراة و علنا و جهارا ، و معلوم أن المجاهرة بالمعصية أكبر جرما بكثير من المعاصي نفسها .و أيضا يدخل تحت هذا التصنيف أولئك الذين يشترون بضائع لصناع يروجون لبضائعهم بعرض صور سوءات المومسات و عورات النساء و الرجال بسبب الدعاية التي ترافق هذه الصور ، إذ لولا إقبال المشترين على تلك البضائع ما تشجع أولئك الصناع أو التجار على ارتكاب هذه الجريمة .أخي السني المحمدي المسلّم لحكم الله ، نعم إن مجرد النظر إلى تلك الصور ليس إثما في حد ذاته ، و مهما عظم شأنه فليس بذنب أعظم من إدامة النظر إلى جسد أو وجه امرأة أجنبية لا تحل لك و هذا الذنب (النظر لإمرأة حقيقية أمام عينيك) يعتبر من الصغائر التي يكفرها الإستغفار و الوضوء و الصلاة و ليس حدا من الحدود الكبائر ، إلا أن شراء هذه الصور أو استئجارها و دفع أي مبلغ يؤدي لتمويل صانعي هذه الصور هو الحرام الكبير ، و هو الجرم العظيم في شرع الله لأنه مشاركة في إثم زنا و قوادة و نشر فاحشة و مجاهرة بتعدي حدود الله و حرماته ، و قد تكسب هذا الإثم و الجرم الكبير بمجرد أن تدفع مبلغا تافها لا يتعدى ثمن ورقة أو عود ثقاب تشتري به تلك الصور و تعين صانعيها على تكرار ما صنعوا فتصبح من أهل هذه المعاصي الكبائر .أما عن آلات التصوير كلها البدائية كاللوح و الريشة و الدهان أو المتقدمة بأنواعها فكلها أشياء مباحة ، و يجوز بيعها و شراؤها و الإتجار بها ، و الصور و اللوحات الجائزة شرعا يجوز بيعها و شراؤها و اقتناؤها و لا حرج في ذلك ، و الله تعالى أعلى و أعلم .ثم الصلاة على نبي الهدى سيدنا محمد و على آله و صحابته أجمعين
كتبه الأستاذ الشيخ عبد الله الخليل التميمي
عنيت بنشره كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أجيال وتكنولوجيا الامريكية
GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY