Uncategorized

الاجتهاد : معناه . أدواته . أهله

بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله الخليل التميمي

“الإجتهاد” معناه – أدواته – أهلهلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معاذا إلى اليمن (قاضيا) قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي و لا آلو (لا أوفر جهدا) ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره و قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله . و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر .من هذين الحديثين استنبط علماء الإسلام مصطلح “الإجتهاد” و أطلقوه على أعلى المراتب العلمية في الإسلام على الإطلاق و لنبحث قليلا في سبب اختيارهم هذه الكلمة دون غيرها :في الحديث الأول نجد من جواب “معاذ” أنه سيبحث عن “”حكم الله تعالى”” في كل مسألة تعرض له في “القرآن” الكريم” أي في “كله” فيستعرض في ذهنه “نصوص” الآيات و معناها و هو يعرفها بداهة من معرفته باللغة العربية بكافة لهجاتها التي نزل بها القرآن (القراءات) و من معرفته بأسباب نزول الآيات و بتفسير رسول الله صلى الله عليه و سلم لهذه الآيات و بترتيب مواعيد نزول هذه الآيات فـ “معاذاً” رضي الله عنه يعرف الناسخ و المنسوخ أيضا و يحاول جهده أن يستخرج من القرآن ما يدله على “حكم الله في هذه المسألة” ، فلا يقتصر في بحثه في آيات الأحكام فقط كما يظن البعض و إنما يبحث في كل القرآن فلعله يجد في آيات الموعظة ما يدله على حكم الله تعالى كما حصل في خلافة “عثمان” رضي الله عنه : ذلك أنهم جاؤوه بامرأة ولدت لستة أشهر فأراد أن يرجمها فقال له “عبدالله ابن عباس” : إنها إن تخاصمكم بكتاب الله تخصمكم ; قال الله عز وجل : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } . وقال : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فالحمل ستة أشهر ، والفصال أربعة وعشرون شهرا ; فخلى سبيلها .فإن وجد “معاذ” ذكرا للمسألة في “القرآن” كان عليه أن يحدد أيضا ما إذا كانت الصورة المذكورة في “القرآن” تنطبق على المسألة التي يبحثها أو أنها قريبة منها فإن كانت قريبة منها سار في بحثه خطوة أبعد فيبحث في “السّنة الشريفة” عما يكمل تصوره للحكم.فإن لم يجد “معاذ” في “القرآن” و معانيه ما يوصله إلى “حكم الله تعالى في المسألة” بحث في “سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم” عن “حكم الله في المسألة” و هي عند “معاذ” على قسمين أكبر و أصغر :الأول و هو الأصغر : “النصوص” (الحرفية) لأقواله صلى الله عليه و سلم و أفعاله و ما أقر الناس على فعله مما شهده “معاذ” أو ما وصل إليه من الصحابة رضي الله عنهم نقلا عن النبي صلى الله عليه و سلم (بالحرف) .الثاني و هو الأكبر : ما وصل إلى علم “معاذ” من أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم و نواهيه بالمعنى و ليس بـ “النص” ذلك أن هذه الأوامر و النواهي كانت ترد إلى كل مسلم في “المدينة المنورة” سواء أشهد أم لم يشهد صدورها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك أن الناس كانوا يتناقلون هذه الأوامر “تبليغا عاما” أي بــ “معنى” هذه الأوامر عمليا أو بـ “النص” (أي بالعبارة التي لفظها رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدرا بها أمره) و لم يكن أمره صلى الله عليه و سلم يكاد يصدر حتى يصل إلى آفاق المدينة المنورة و تعرفه النساء في خدورها فأصحابه صلى الله عليه و سلم كانوا يعملون بأمره الشهير ” ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب” بل كانت جل أحاديث مجالسهم هي ما يتناهى إليهم من هديه الشريف صلوات الله عليه ؛ و إن كان صلى الله عليه و سلم قد حضهم على تبليغ أمره “حرفيا” إلا أن قابلية “الحفظ الحرفي” لم تكن متوفرة للجميع فكان التبليغ عموما يتم بالمعنى إن لم يتيسر الحفظ للفظ و هذا هو الغالب ، و هكذا يحق لـ “معاذ” أن يقول أنه محيط علما بـتمام “سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم” خاصة و أنه أُرسل إلى “اليمن” في نهاية حياة النبي صلى الله عليه و سلم.و طبعا كان “معاذ” يعرف الترتيب الزمني لمواد السنة النبوية التي يحفظها فهو يعرف ما نُسخ منها و ما الذي نَسخه و ما الذي بقي معمولا به من الأوامر التي أصابها النسخ و ما الذي ألغي العمل به تماما و ما الذي يمكن العودة للعمل به و في أية ظروف و ما الذي لا عودة للعمل به ، و طبعا كان “معاذ” يعرف آليات تنفيذ أحكام الله “القرآنية” و “السنية” معرفة تامة لأنه تربى على تطبيقها عمليا على يد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كبار الصحابة .فإن وجد ذكرا للمسألة في “السنة” كان عليه أن يحدد أيضا ما إذا كانت الصورة المذكورة في “السنة” تنطبق على المسألة التي يبحثها أو أنها قريبة منها فإن كانت قريبة منها سار في بحثه خطوة أبعد .فإن لم يجد “معاذ” بعد هذا البحث “حكم الله في المسألة” فإنه يجهد عقله و قلبه و تصوراته باستعمال آليات علمية تعلمها هو و الصحابة الكرام من “النبي” صلى الله عليه و سلم حتى يحكم بما يجزم أنه الأقرب إلى أن يكون “حكم الله تعالى في المسألة” مستضيئا مستهديا مستدلا بهذا الكم الهائل من “العلم” و “الكفاءة” التي أعطاه الله إياه بشهادته صلى الله عليه و سلم حين قال : أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل.في هذه الحالة نجد بداهة أنه لن يعلم بدقة تامة “حكم الله تعالى في المسألة” إلا الله تعالى ثم رسوله صلى الله عليه و سلم ؛ و لا سبيل للبشر لتوصل إلى ما يجزم به العقل و القلب أنه “حكم الله في المسألة” إلا بسلوك الطريق الذي سلكه “معاذ” رضي الله عنه و بتوفيق كثير من الله تعالى و واضح مما تقدم أن سلوك هذا الطريق “مجهدٌ” جدا و لا يمكن إلا للمختارين من نخبة الناس الصالحين العلماء و ما أقلهم بين في كل زمان .و سواء أوجد “معاذ” رضي الله عنه “حكم الله تعالى في المسألة” في “القرآن” أم في “السنة” أو أنه استدل على ما جزم به أنه “حكم الله تعالى في المسألة” بعد أن “أجتهد” في تصوره لما يرضي الله فيها فإنه في نهاية الأمر بشر يخطيء و يصيب إلا أن إنسانا بهذا الكم من العلم و الكفاءة الخبرة و التقوى لن يخطيء “حكم الله في المسألة” إلا نادرا جدا جدا سواء أوجدها في كتاب الله أم في السنة أم من تصوراته المقاربة بإجازة من النبي صلى الله عليه و سلم ، و لذلك فإن الله تعالى غفر له هذا “الخطأ” و جَبَرَه و جعله أيضا دينا و عبادة يرضاها سبحانه عنده و يعطي عليها الأجر و الثواب و يعطي من يعمل بهذا “الخطأ” الأجر و الثواب أيضا على اتباع “معاذ” في خطئه ذلك أن “معاذا” كان يحكم في المسائل بتكليف من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل “اليمن” بطاعة “معاذ” و جعلها طاعة له صلى الله عليه و سلم و بهذا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن “خطأ” واليه “معاذ” هو عين “حكم الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم” و هو صواب أيضا من حيث النتيجة و اتباعه ظاهرا و باطنا عبادة لله تعالى و مخالفته معصية لله تعالى ، و هذا من رحمة الله بعباده ذلك لو أن الله تعالى آخذ “معاذا” على خطئه و آخذ أهل “اليمن” على اتباع هذا “الخطأ” فإنه يكون سبحانه قد كلف الجميع بما لا يطاق فلا سبيل لا لـ “معاذ” و لا “أهل اليمن” أن يعرفوا إن كان العالم الكبير “معاذ” قد أخطأ في إيقاع “حكم الله في المسألة” إلا بسؤال رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد فاتهم إلى الرفيق الأعلى .لقد “اجتهد” العالم الإمام “معاذ” رضي الله عنه في البحث عن “حكم الله في المسائل” التي عرضت له و “خطؤه و صوابه صواب عند الله و عند الناس” و لكن لتجنب هذه العبارة (التي تلتبس على الجاهل فيظنها “عصمة من الخطأ”) أطلق العلماء على “”كل ما صدر”” من أحكام عن “معاذ” و عن غيره من العلماء الكبار الذين هم في ما يقارب علم “معاذ” و كفاءته و أجازهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبحث عن “حكم الله في المسائل و إصدار هذا الحكم” اسم “الإجتهاد” و أطلقوا على الواصلين إلى نهايات هذا السبيل و حصلوا على إجازة من رسول الله صلى الله عليه و سلم مباشرة أو بسند متصل من مجازين بـ “الإجتهاد” اسم “الأئمة المجتهدين” .لم يكلف الله “أهل اليمن” سؤال “معاذ” عن كيفية بحثه عن “حكم الله في المسائل” التي حكم بها و إنما أجاز الجميع و أثاب الجميع و اصطلح العلماء على إطلاق تسمية “التقليد” على ما فعله “أهل اليمن” من “طاعة معاذ” و سموا بها طاعة كل مسلم لما يصدر من أحكام عن “إمام مجتهد” (كفؤ لأن “يجتهد” كــ “معاذ”) دون تكليفه سؤال هذا “المجتهد” عن كيفية وصوله إلى هذه الأحكام و اتفقوا على تسمية جملة هؤلاء “المقلدين” بـ (العامة) أو “العوام”.و لأن “معاذ” و بقية علماء “الصحابة” من “الأئمة المجتهدين” كانوا على درجة كبيرة جدا من العلم و الكفاءة بكيفية الوصول إلى “حكم الله في أية مسألة” تعرض لهم كانت أحكامهم على جميع المسائل التي حكموا فيها مدة زمانهم متطابقة تقريبا و لأنهم بشر يخطئون و يصيبون وقع الخلاف بينهم حول عدد غير كبير من المسائل التي حكموا فيها و لكنها جميعها لم تكن مسائل أساسية أو متفرعة من مسائل أساسية و إنما كانت متفرعة عما تفرع من الأساسيات و لم تشكل أبدا حاجزا بين هؤلاء الصحابة و لا بين من تبعهم و تلقى عنهم “اجتهاداتهم” .كان هؤلاء “الأئمة المجتهدون” من الصحابة يعدون بالعشرات و كان لكل واحد منهم تقريبا أتباع يقلدونهم في الأمصار التي سكنوها و لم يكونوا يعيبون على من يخالفهم إن كان هذا المخالف “إماما مجتهدا” أو كان يقلد “إماما مجتهدا” آخر و هذه بقيت قاعدة ثابتة و أصلا من أصول الدين و كانوا إن وجدوا ما ينكرونه من فتاوى غيرهم من “الأئمة المجتهدين” جادلوا هؤلاء الأئمة مباشرة جدال النظير لنظيره دون نشر الخلاف و تحويله إلى خصومة و حديث للعامة.و في العصور التالية التي تميزت بالتدوين تضاءل عدد “الأئمة المجتهدين” و لكن العناية بتدوين ما يصدرونه من “أحكام الله” كانت تزداد إلى وقت (نهاية القرن الثالث الهجري) عندما تناهى الأمر إلى أن انعدم وجود هؤلاء “الأئمة المجتهدين” تماما و لكن الله تعالى كان قد من على هذه الأمة الباقية – الظاهرة على الحق أبدا – بأن أربعة من “الأئمة المجتهدين” كانوا قد تركوا وراءهم “إرثا كاملا” من “الإجتهادات” و تركوا جمهورا غفيرا من التلاميذ الذين تعلموا كيف وصل هؤلاء الأئمة إلى “حكم الله في المسائل” التي عرضت لهم و هي ببساطة كل ما قد يخطر ببال أحد من المسائل الشرعية التي وقعت و التي ستقع في المستقبل إلى “يوم القيامة” ، و لقد تورع جميع علماء “أهل السنة و الجماعة” في تلك الفترة المباركة بلا استثناء عن البحث عن “حكم الله تعالى في المسائل” بشكل مستقل أي بالعودة إلى “القرآن” و “السنة” مباشرة دون المرور بتراث “الأئمة المجتهدين الأربعة” و أجمعوا على الاكتفاء بإرث هؤلاء الأئمة الأربعة “المجتهدين” للسائل و للمجيب و للطالب و للمعلم و تركوا تراث غيرهم من سابقيهم من “الأئمة المجتهدين” لأن تراث أي واحد من هؤلاء السابقين لم يكن مدونا بشكل كامل و مضبوط و بسند متصل متين إلى صاحبه “الإمام المجتهد” لا بل حرموا إصدار “الأحكام” نقلا عن تراث غير هؤلاء الأربعة و سمي هذا بـ “الإجماع على إغلاق باب الإجتهاد” و استمر العمل على أساس هذا الإجماع إلى يومنا هذا برضا تام من العلماء و الحكام و العامة .فبالله عليكم بعد هذه الحقائق هل يعقل أن يقبل مسلم بأن يأتي أدعياء جهلة كـ “ابن عبدالوهاب” و “الألباني” و “ابن عثيمين” و “الظواهري” و غيرهم ليزعموا أنهم أعلم و أقرب إلى “حكم الله في المسائل الشرعية” من “المجتهدين الأربعة” في حين أحجم عن هذا جبال كـ “ابن حجر العسقلاني” و “أبو يوسف” و “ابن قدامة” و “الذهبي” و “ابن كثير” و “النووي” و سائر علماء هذه الأمة المحمدية ؟؟ و هل يصدق عاقل مزاعم هؤلاء الأدعياء أنهم يملكون من العلم و الكفاءة ما يقارب تلك التي كانت لـ “الأئمة المجتهدين” من الصحابة و التابعين و تابعي التابعين ؟؟ ثم من أين لهم الإجازة ب”الاجتهاد” استقلالا بالسند المتصل برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يجبر خطؤهم و يكون مأجورا عليه و يؤجر عليه من يقلدهم ؟؟ و هل يقبل مسلم أن يقلد هؤلاء الجهلة ثم يقول : أنا عامي أقلد مجتهدا !! أو كما يقول أهل نجد “خليها براس عالم و اطلع منها سالم!!” .. الويل لهؤلاء مما تصف ألسنتهم من الكذب و الويل لمن يتبعهم إلا أن يتوبوا.

الاجتهاد .معناه . أدواته . أهله

بقلم الأستاذ عبد الله الخليل التميمي

عنيت بنشره كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أجيال وتكنولوجيا

GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY

About the author

admin

Leave a Comment