Uncategorized

الهلال

#الهلال ::

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ سقوط بلاد المسلمين تحت سلطة الإستعمار رعت هذه السلطة و السلطات التي تنوب عنها الآن في هذه البلدان نشأة طبقة من أدعياء العلم و متقمصي صفة العلماء السنة “علماء مزيفون” هذه الطبقة تعمل بإشراف مجموعة من المستشرقين الإستعماريين واسعي الإطلاع على العلوم الإسلامية و متعلقاتها ، مهمة هذه الطبقة تسويق و حقن العقائد و المعاملات الأوربية و الغربية عموما في المجتمعات المسلمة ، و ذلك باصطناع مبررات ممسوخة من تأويلات خنفشارية لنصوص إسلامية من آيات و أحاديث شريفة متتبعين بعض الشذوذات المنسوبة لمتأخرين من مصنفي الفقه .

لقد عملت هذه الطبقة بجد و نجح أعضاؤها في غسل أدمغة الكثيرين و إقناعهم بأن تغيير ما يؤمنون به و يمارسونه من عادات يومية و شعائر و معاملات إسلامية و تكييفها لتتطابق مع نظائرها المعمول بها في بلاد الغرب عمل لا يناقض دين الإسلام و لا يضر بسلامة و إيمان المسلمين ، و ذهب بعضهم إلى اعتبار أن اتباع العقائد و المعاملات بل و حتى الشعائر المعتمدة في الغرب هو الصواب و أن ما ورثه المسلمون من أمر دينهم على مر تاريخ الإسلام هو الضلال و الجهالة و السبب في انحطاط شأن المسلمين و تفوق المستعمرين عليهم .

عطلة الجمعة و الحجاب الشرعي و قوانين الشرع في المعاملات و الأسرة كل هذه الثوابت حاربها الاستعمار في بلادنا و أجبروا الكثير من الأمم على تبديلها و اعتماد ما فرضه الإستعمار ، و كل هذا التبديل تم تسويقه للعامة من المسلمين على أنه موافق لأحكام دين الله بفتاوى كاذبة و مفتراة من النمط الذي تحدثنا عنه آنفا ، التقويم الهجري القمري يعد من أهم هذه الأمور التي استهدفها المستشرقون و طبقة العلماء المزيفين آنفة الذكر ، و سنشرح في هذه الرسالة ما صنعه هؤلاء و ما يصنعونه في هذا المجال ، و نبين ما أجمعت عليه الأمة إجماعا متوارثا بشأن التقويم الهجري و كيفية حسابه .

تتميز أمة الإسلام عن سائر الأمم باعتمادها للتقويم القمري لحساب الزمن ، و ذلك بأمر من الله تعالى الذي قال : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ .

و كان العرب قد ورثوا هذا التقويم من رسول الله إسماعيل ابن إبراهيم عليهما الصلاة و السلام ، و قد وقع اضطراب في ضبط الأشهر و السنوات حتى توقف ترقيم السنوات و اختلف العرب في مبدأ عدها بحسب المناسبات التي تحفظها ذاكرة كل إقليم على حدة ، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم ؛ فأقر التقويم القمري و أعلن مبتدأ الضبط لهذا التاريخ في حجة الوداع حين قال : الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَته يَومَ خَلَقَ الله السَّمَواتِ والأرْضَ ؛ السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، و ذُو الحِجَّةِ ، و المُحَرَّمُ ، و رَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى و شَعْبانَ .

هذا الترتيب الوارد في هذا الحديث الشريف و عليه اليوم التقويم القمري موضع إجماع متواتر إلى زماننا هذا و سيبقى كذلك إلى يوم القيامة ، لا يسعى لتغيير أو لمخالفته أو إلغائه إلا معادٍ لله و محارب لدينه ، و من جحده من منتسبي الإسلام خرج من الملة قولا واحدا لإنكاره معلوما من الدين بالضرورة ، حبط عمله و لا يقبل الله منه عدلا و لا صرفا حتى يعود عن جحوده و يرجع إلى ملّة الحق .

كيف تحسب الشهور القمرية ؟

يبدأ الشهر القمري بظهور الهلال ، و يكون في أول أمره نحيفا و دقيقا لا يكاد يرى بالعين المجرة ، و لا يزال يكبر في كل ليلة حتى يصير قمرا كامل الإضاءة و الإستدارة في الليلة الرابعة عشرة من الشهر ، ثم يعود للنقصان حتى يصغر تماما و يختفي في الليلة الثامنة و العشرين ، ثم يظهر مجددا صغيرا و دقيقا في الليلة الثلاثين ، أو يبقى مختفيا حتى يظهر في الليلة الحادية و الثلاثين .

تنبيه : لا يمكن لهذه الدورة أن تزيد عن ثلاثين ليلة بحال من الأحوال ، و لهذا فإن الأشهر القمرية يكون بعضها تسعا و عشرين يوما و بعضها ثلاثين يوما ، و لا يوجد أبدا شهر قمري أقصر أو أطول من هذين الرقمين .

تنبيه : الهلال حين يُرى ليلا لأول مرة تكون تلك ليلة أول الشهر ، و الصباح التالي يكون يوم أول الشهر ، لأن أول اليوم يكون عند غياب الشمس و ليس عند شروقها ، فمثلا اليوم الخميس ينتهي بغياب الشمس ، و بغيابها تبدأ ليلة الجمعة و هكذا .

تنبيه : ليس بالضرورة أن تتناوب الأشهر القمرية بحسب الطول و القصر ، فقد يأتي شهران متعاقبان بطول ثلاثين يوما ، أو يأتي شهران متعاقبان بطول تسعة و عشرين يوما ، و لكن لا يمكن أن تتعاقب أشهر ثلاثة بنفس الطول .

كيف يرى الهلال في أول يوم من الشهر و من أين يطلع ؟.

حين يكون طول الشهر المنصرم تسعة و عشرين يوما فإن هلال أول الشهر التالي يطلع من جهة الغرب مقترنا بلحظات غروب شمس التاسع و العشرين من المنصرم ، و الراصد له يجب أن ينظر إلى تلك الجهة في تلك الساعة ، فإن رآه فهو هلال أول ليلة من الشهر التالي ، و إن لم يره أحد فتلك إذا ليلة الثلاثين من الشهر المنصرم و يكون غروب شمس الغد مبتدأ الليلة الأولى من الشهر التالي .

رصد العرب الهلال هكذا على مر دهرهم ألوفا من الأعوام المتعاقبة ، و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ليثبّت هذه الطريقة في حساب الأشهر القمرية ، و عملت أمة الإسلام دهرها كله بإجماع علمائها على حساب الأشهر القمرية بهذه الطريقة الآنفة الذكر .

هل يجب رصد هلال الأول من جميع الأشهر القمرية ؟

كان العرب في باديتهم يرصدون الأهلة في نهاية كل شهر قمري ، و بعد أن جاء الإسلام صار رصد الأهلة فرضا على كل أحد في نهاية شهر شعبان ، و في نهاية شهر رمضان ، و فرضا متعينا على الحجاج إلى مكة في نهاية شهر ذي القعدة ، أما في نهاية شعبان فلأن صيام شهر رمضان فرض متعين على كل مسلم ، قال تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَ الْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَ مَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . فصيام رمضان فرض على المسلم ، و لمعرفة رمضان لا بد من تحري بدايته مع غياب شمس التاسع و العشرين من شعبان ، و لا بد من تحري نهايته مع غياب شمس التاسع و العشرين من رمضان .

و يتعين على سكان مكة و الحجاج الموجودين فيها أن يتحروا بداية ذي الحجة في ليلة التاسع و العشرين من ذي القعدة ليعرفوا موعد يوم التاسع من ذي الحجة و هو يوم الوقوف بعرفة و هو الركن الأكبر للحج ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحج عرفات . و هو حديث متواتر المعنى و الثبوت و الدلالة .

ينتقل هذا الفرض من فرض متعين على كل أحد إلى فرض كفاية (إذا قام به بعض المسلمين الأكفاء سقط عن بقية الأمة) في حال قيام السلطان المسلم أو من ينوب عنه بتكليف من يتحرى الأهلة في هذه المناسبات أو يتواطأ أهل البلد على هذا التكليف بإرشاد علمائهم ، و يجب أن يكون و المتحرون مسلمين ذوي خبرة في الأرصاد و الأجواء و مواسم السنة حتى يصح قيامهم بالفريضة الكفائية نيابة عن أهل الفريضة العينية ، و كل هذا الذي ورد آنفا أجمع عليه أئمة أهل السنة الأربعة رضي الله عنهم .

لذلك لا يكون القيام بفريضة الكفاية متحققا إن شارك في هذا العمل فاسق معلوم الفسق أو غير مسلم أو ملحد أو أحد من الفرق المنشقة عن الإسلام .

كيف نتحرى الهلال ؟ برؤيا العين المجردة لشخص مسلم بالغ عاقل ، و هذا مجمع عليه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما) و هو حديث صحيح النص و المعنى و قطعي الثبوت و الدلالة بالإجماع المتواتر .

كيف تتحقق رؤية الهلال ؟.

أجمع علماء الإسلام قاطبة على أن أحكام الإسلام نزلت بما يوافق الجمهور ، و معنى هذا أن هذه الأحكام يجب أن يمكن تنفيذها بمقدرات الإنسان المسلم العادي دون الحاجة إلى آليات معقدة و عمليات حسابية تفوق القدرات المعتادة لجمهور الناس العاديين بمختلف أنواع مهاراتهم و حرفهم .

لذلك أجمع الأئمة الأربعة و نقلوا عن أساتذتهم من جمهور التابعين و الصحابة الكرام إجماعا على ما يلي :

لا تثبت رؤية الهلال لأحد لنفسه أو لجماعة من المسلمين كبرت أو صغرت إلا برؤية العين المجردة فقط ، و لا تثبت بحال من الأحوال باستعمال آلات الرصد الفلكي بأنواعها ، مهما تقدمت و تعقدت أو كانت بسيطة .

هذا الإجماع يتضمن أن بداية رمضان و نهايته و بداية ذي الحجة لا تثبت بحال بالحسابات الفلكية التي تعتمد على الجداول الإحصائية للمراصد التي ترصد حركة القمر .

هذا الإجماع لم يشذّ عنه أحد من علماء الإسلام أهل السنة منذ فجر الدعوة و إلى يومنا هذا و هو باقٍ إلى قيام الساعة .

تنبيه هام : الإجماع أصل ثابت في دين الإسلام و معناه اتفاق علماء الإسلام على تعيين حكم الله في مسائل ، سواء أكانت مسائل تتعلق بتفسيرات نصوص شرعية (قرآن – حديث ثابت) أو مسائل تظهر من أمور الحياة ، و هذا الإجماع وحي من الله تعالى و معجزة محمدية باقية إلى قيام الساعة ، و هو كوحي الله تعالى للنحل ، و لا يتطرق إليه الباطل أبدا ، و لا يسع مسلما أن يخالفه عمدا ، أما من جحد كل الإجماع أو إجماعا على أمر بعينه عمدا بعد علم فهو فهو خارج من ملّة الإسلام ، فإن دعى لخلاف الإجماع فهو من أئمة الحرب على الإسلام و العياذ بالله تعالى .

أما ينسب للسبكي و هو من متأخري العلماء المقلدين للمذهب الشافعي من جواز إثبات بداية رمضان و نهايته و بداية ذي الحجة بالحسابات الفلكية فهو باطل جملة و تفصيلا لأن السبكي عاش بعد انعقاد هذا الإجماع على بطلان ثبوت بداية رمضان إلخ بالحسابات الفلكية ، و لقد رد جمهرة علماء الشافعية ممن عاصر السبكي أو جاء بعده على هذه الدعوى و بين بطلاب نسبتها لمذهب الشافعية أو لأي مذهب من المذاهب الأربعة قولا واحدا .

بل لقد أجمع علماء الإسلام على تحريم اتّباع من أجاز الحسابات و لو كان السلطان الأعظم (خليفة المسلمين) أو أي سلطان المسلم بنصوص الفقهاء المثبتة في مبسوطات الفقه ، و لا يجزيء اتباع السلطان المسلم المعتد بالحسابات الآنفة الذكر في أداء الفرض فكيف باتباع أدعياء علم و شراذم شذاذ آفاق و محتالين و لصوص من الذين ينتحلون صفة العلماء و ينتشرون في بلاد أوربة و سائر البلاد غير الإسلامية التي توجد بها جاليات للسُنّة ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .

شرح مفصل :

لتفهم جيدا صور أحكام تحري الشهور القمرية سأشرح صورة توفر الحد الأدنى من المُقدّرات للمسلم و منها تُفهَم كل الصور الأخرى بحيث لا يحتاج قارئ هذا السِّفر إلى التخبط و كثرة التساؤل لاختلاف الأحوال ، الصورة هي :

زيد مسلم يقيم في دار على مسافة غير قريبة من بلد عامر للمسلمين ، بحيث لا يستطيع سماع الأذان و لو عبر مكبرات الصوت و لكنه يستطيع أن يرى جزءاً من عمران هذا البلد إن اعتلى سطح داره ، و لا توجد وسائل اتصال بينه و بين البلد لا هاتف و لا طير زاجل و لا غيره ، و لنفرض أن سيلا ضخما يحول بينه و بين الوصول إلى هذا البلد أو أي بلد آخر مجاور ، و السماء صافية و هو في يوم التاسع و العشرين من شعبان .

الفرض في حق زيد هذا أن يعتلي سطح داره و ينظر إلى اتجاه غروب الشمس في ذلك اليوم و يراقب غروب الشمس إلى أن تغيب تماما و ينتظر قليلا حتى يرتفع الشفق الأحمر ، فإن رأى الهلال خلال هذا الوقت فهذه الليلة الأولى من رمضان و الفريضة في حقه أن ينوي الصيام .

فإن لم يرَ الهلال فهي الليلة الثلاثون من شعبان ، و سيكون الصيام فرضا عليه في النهار بعد التالي .

فإن لم يرَ الهلال ثم وصله خبر قبل طلوع فجر ليلة التاسع و العشرين من شعبان أن أهل البلد رأوا هلال رمضان ، أو بلغهم ثبوت رؤية الهلال ، بأن وصل إلى قربه عابر أخبره ، أو حملت له الريح أصوات التكبيرات ، أو كانت عادة أهل البلد إيقاد الأنوار على رؤوس الأبنية العالية إشعارا و احتفالا بثبوت الشهر فرأى زيد أو أحد أهل داره من المسلمين البالغين تلك الأنوار فأخبره قبل طلوع الفجر ، فإن الفرض في حقه هو الصيام عند الفجر ، أما إن لم يرَ شيئا و لم يبلغه شيء فإنه يكون في ليلة الثلاثين من شعبان .

فإن لم تثبت له رؤية الهلال ، و مضى عليه وقت من رمضان ، ثم استطاع أن يصل إلى البلد ، فعلم أن أهل البلد رأوا الهلال ليلة التاسع و العشرين ، فإنه يكمل صيامه معهم و يفطر معهم ، و حتى إن رأوا هلال شوال عند غروب شمس التاسع و العشرين من رمضان ، و يقضي ذلك اليوم الذي اعتبره الثلاثين من شعبان وقت انقطاعه لأنه سيكون قد صام فقط ثمانية و عشرين يوما .

أما لو لم يروا هلال شوال و أتموا عدة رمضان فإنه يفطر معهم أيضا و يقضي صيام اليوم الأول من رمضان .

أما لو أنه اتصل بهم بعد انقضاء رمضان فاختلف تحديده عن تحديدهم فإن عليه أن يقضي ما قَصُر عن صيامهم، إلا أن يكون قد انقضى عام على انقطاعه فعندها لا يقضي الفروق ، و هو يكون بهذا مطيعا بارّا و لم يفرط في شيء من الصيام بل هو مأجور إن أصاب صيامهم أو لم يصبه .

تنبيه : إن كانت تلك البلدة المجاورة له تبعد عنه نصف مسافة القصر أو أكثر لم يكن بحاجة إلى أن يضبط صومه على صيام أهلها عند السادة الشافعية .

تنبيه : إن كانت تلك البلدة محكومة من قبل من يفرضون الحسابات الفلكية لتحديد بداية الشهر فلا اعتبار لإعلانهم موعد بداية الشهر و لا يجوز لزيد أن يتابعهم أو أن يستعلم منهم عن موعد بداية الشهر ، و يعتبر صيامه صحيحا و لا قضاء عليه و يصوم و يفطر بتحديد نفسه لموعد بداية الشهر و نهايته بناء على تحريه هو .

نفس الحكم الآنف ينطبق على حالة كون تلك البلدة محكومة من قبل غير مسلمين سواء أكانوا ملاحدة أو زنادقة أو وثنيين أو غيرهم و يفرضون على الناس تحديد مواعيد بداية و نهاية الأشهر بحسب أهواء أولئك الحكام و لا يوجد للمسلمين في تلك البلدة قاض يحكم بالإسلام مستقل بقضائه نافذة أحكامه ، ففي الحالة الأولى (اعتماد الحسابات الفلكية) يكون سكان تلك البلدة واقعين في حكم الخروج من الملة برضاهم و في الحالة الثانية يكونون مجبرين على اتباع حكم من أحكام الكفر و العياذ بالله ، و في كلا الحالين يحرم اتباعهم قطعا .

يتضح مما سبق أن تحري الهلال أصلا فرض عيني ، و أنه يسقط عن الأعيان فقط إن قام به جماعة من أهل الكفاءة من المسلمين المتقيدين بالشروط الشرعية التي ذكرناها في بداية الرسالة ، فيجب أن يكونوا من أتباع الأئمة الأربعة و اعتقادهم سنّي و غير فسّاق و لهم معرفة بكيفية رصد الهلال ، و أبصارهم صحيحة .

اختلافات فقهية :

اليوم الأول من الشهر القمري سواء رمضان أو غيره يثبت برؤية طلوع الهلال لغياب شمس تسع و عشرين ، و سيطلع حتما في اليوم التالي لبداية ليلة لثلاثين إن غُمّ في نهاية التاسع و العشرين ، و الهلال يطلع على كل الأرض و ليس على أرض دون أرض ، و لكن اختلاف زاوية الرصد و الظروف الجوية هي التي تسبب رؤيته في إن طلع ليلة التاسع و العشرين في بعض البلاد و صعوبة رؤيته في بلاد أخرى ، و الأصل أن اليوم الأول من الشهر القمري يبدأ في كل الأرض و ليس في أرض دون أرض ، لأن الهلال يطلع باكتمال دورة القمر حول نفسه و حول الأرض و لا علاقة لاختلاف أقاليم الأرض بهذه الدورة كما قد يتوهم بعض الجهلة ، فالأصل أن ثبوت رؤية الهلال بغياب شمس التاسع و العشرين في أي بلد هو إثبات لبداية الشهر لكل الأرض ، و لكن بسبب بعد المسافة بين البلدان و الأقاليم و صعوبة وصول خبر رؤية الهلال حكم جميع الفقهاء بأن التحري يكون ابتداء في كل بلد و إقليم ، و ثبوته في إقليم لا يلُزم بقية الأقاليم إن تأخر وصول خبره إلى تلك الأقاليم عن موعد طلوع فجر ، و المالكية يلزمون الإقليم الذي تبلغه قبل زوال يوم الثلاثين رؤية إقليم آخر باعتبار تلك الرؤية و بعقد صيام رمضان أو الإفطار لشوال ، و الحنابلة يفرضون على الإقليم الذي أفطر يوم الثلاثين من شعبان بإكماله العدة لعدم الرؤية على قضاء ذلك اليوم إن بلغهم ثبوت الرؤية عند غياب شمس التاسع و العشرين من شعبان في إقليم آخر .

هناك مذهبان للسنة لا ثالث لهما لتحديد مبتدأ شهر رمضان الكريم و نهايته ، الأول هو مذهب الجمهور أي الأحناف و المالكية و الحنابلة ، و هو أن الرؤية إن ثبتت في بلد من البلدان على وجه الأرض بطريقة التحري الشرعية الواردة آنفا فأن الرؤية تثبت في كل أرجاء العالم ، بشرط أن تصل أنباء هذا الثبوت في نفس الليلة ، أي أن يكون البلد الذي ثبتت فيه الرؤية و البلد الذي يبلغه الخبر يمكن أن يظلهما الليل في نفس الوقت في تلك الليلة ، و هذا الشرط مما أجمع عليه أهل السنة مطلقا .

المذهب الثاني هو مذهب السادة الشافعية و بعض المالكية بأن كل إقليم مكلف بتحري الهلال على حدة و ثبوت الرؤية في أحدها لا يعني ثبوتها في الإقليم المجاور الذي يبعد نصف مسافة يوم و ليلة لمراعاة اشتراك الذين يبلغهم خبر ثبوت الرؤية مع الذين أثبتوا الرؤية في زمن الليلة نفسها حتى ينعقد صومهم لأن الصوم لا ينعقد إلى بالنية من الليل عند الشافعية .

ما الذي يجب على زيد أن يفعله ؟

هناك عدة صور متممة للصورة الآنفة الذكر عن حالته :

الصورة الأولى : أن يختار اتباع المذهب الشافعي و أن تكون البلدة المجاورة له بعيدة نصف مسافة القصر ، و لا يستطيع الوصول إليها ، عندها يجب عليه أن يتحرى الهلال بنفسه و يصوم و يفطر بناء على تحريه هو .

الصورة الثانية : أن يختار اتباع المذهب الشافعي ، و أن تكون البلدة المجاورة له أقرب من نصف مسافة القصر ، و أن توجد فيها مجموعة مؤهلة لتحري الهلال ، فعندها يجب أن يتحرى الهلال بنفسه ، ثم إذا قدر على الاتصال بهم قبل مضي ليلة الثلاثين من شعبان أو رمضان فإن عليه اتباعهم قطعا إن بلغه خبر صومهم أو فطرهم في نفس ليلتهم ، و يجب عليه ترك رصده لرصدهم في حالة أن غُمّ عليه الهلال و رأوه .

فإن لم يرى أهل البلدة الهلال و رآه هو شهد لهم فإن قبلوا فهم سيوافقونه ، و إن رفضوا صام لنفسه و أفطر لنفسه .

إن اتبع قول الشافعية و رأى الهلال أو لم يره و اتصل بأهل البلدة فإذا هم يتبعون الحسابات الفلكية أو يستعملون المناظير الفلكية أو كان سلطانهم و القائمون على تحري الهلال من أهل الزندقة أو من أتباع الفرق المنشقة عن الإسلام أو من المشتهرين بالفسق ترك تحريهم مطلقا و اتبع تحري نفسه كما أسلفنا أعلاه .

الصورة الثالثة : أن يتبع الجمهور (بقية المذاهب الأربعة) و تكون لديه و سيلة للإتصال بأقطار و أقاليم للمسلمين كما هو الحال الآن ، فعندها عليه أن يتحرى الهلال لنفسه ، فإن رآه فهو ذاك .

إن اتبع الجمهور و تحرى و لم يرَ الهلال و بلغه أن الرؤية ثبتت في بلد مسلم و بالتحري الشرعي بغير الحسابات الفلكية و آلات الرصد فإن الفرض أن يتبع تحريهم طالما أن الشمس تطلع على ذلك البلد و على بلده في وقت واحد و لو للحظة ، أو أن الليل يظل بلده و ذلك البلد في نفس الوقت و لو للحظة ، بمعنى أن لا يزيد فارق التوقيت بين بلده و ذلك البلد عن اثنتي عشرة ساعة .

تنبيه : يقوم بعض المحتالين و الجهلة و المنافقين بنشر بيانات عن موعد بداية رمضان أو موعد نهايته و ذلك قبل أسبوع أو أسبوعين أو أكثر من موعد وجوب تحري الشهر ، و الفرض في في حق المسلم أن يرفض هذه البيانات و يشنع على من أصدرها و ينهى عن نشرها ، لأن هذه نشر البيانات فعل من أفعال الحرب على الدين و العياذ بالله ، و يحرم على المسلم توزيعها أو العمل بموجبها و الإشارة إلى أحد بقراءتها لأنه من الإعانة على الحرب على الدين نسأل الله السلامة .

أما هلال ذي الحجة فأحكامه هي نفس أحكام هلال رمضان من حيث الفرضية و التحري بالشروط الآنفة لأهل مكة و لمن كان بمكة من حاج و معتمر ، لأنهم في فريضة أعيان ، و الأمر فريضة عين ابتداء فإن وجدت جماعة لتحري الهلال ارتفع الفرض عن الأعيان و صار على الجماعة المخولة تحري الهلال ، أي صار فرض كفاية ، أما المسلمون خارج مكة فليس تحري هلال ذي الحجة بفرض عين عليهم و إنما هم تبع بداهة لأهل مكة طالما أنه يمكن أن يبلغهم العلم بنتيجة تحري أهل مكة ، و من زعم أن تحري هلال ذي الحجة منوط بأهل البلدان مع إمكان الإتصال بمكة و أخذ العلم من أهلها بموعد التاسع من ذي الحجة (يوم الوقوف بعرفات) فهو إما جاهل أو صاحب فتنة و في كلا الحالين يحرم إتباع قوله ، و لا تجوز الصلاة خلفه و لا اتباعه و لا استفتاؤه في شيء من أمور الدين لمخالفته الوقحة للإجماع .

و لقد علمت أن بعض أهل الفتن من المحتالين الجهلة أدعياء العلم في بلد غربي كان يسوق وراءه جماعة من الناس إلى الحج فجاء بهم إلى مكة و حين علم بموعد بداية شهر ذي الحجة قال لأتباعه : أنا تحريت الهلال و سألت المراصد الفلكية فأخبروني بأن رؤية الهلال متعذرة ، و لذلك لن نقف في عرفات مع الناس و إنما في اليوم التالي ، فاتبعوه و انخدعوا له فبطل حجهم ، و لقد دأب هذا الدعي الدجال على تعمد مخالفة إجماع المسلمين في موعد صلاة عيد الأضحى في كل سنة و لقد تبعه جماعة من الجهلة و الدهماء فأرداهم إن لم يتوبوا نسأل الله العافية .

هذه الأحكام الواردة في هذه الرسالة تنطبق تماما على المقيمين في بلاد الغرب ، حيث المساجد و الجماعات التي تديرها في غالبية الحال من الجهلة و أدعياء العلم و ليس فيهم من هو أهل للفتوى أو نقلها ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و أقول بعون الله أن هذه الرسالة تصلح دليلا لكل سنّي موجود في بلد ليس فيه للسنّة و علمائهم سلطان و اشتهار و الله تعالى و تبارك هو المقصود بهذا العمل .

الأستاذ الدكتور عبد الله الخليل التميمي

About the author

admin

Leave a Comment