Uncategorized

القوة السحرية للكلمة

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو

القوة السحرية للكلمة

الكلمة هي أقوى شيء في العالم، فخلق الكون كان بكلمة منه سبحانه وتعالى حين قال: كـن! فكان!
إن الكلمة لديها قوة وقدرة على التغيير الجذري في حياة الإنسان، فكم من أناس تحطموا تحت ثقل كلمة متهورة! وكم من امرئ كان محطماً ضائعاً أنقذته كلمة! وكم من شخص كان يعيش كالميت أحيتْه كلمة!
في بدْء الخليقة وسوس الشَّيطان لأبينا آدم عليه السلام وأمِّنا حواء بكلِمة، فكان الخروج من الجنة، وتابع إبليس نشاطه فوسوس لقابيل بكلمة، فقتل أخاه هابيل.
وبالمقابل كانت الكلِمات من بداية سورة طه سببًا في إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه، وكانت كلمات مصعب بن عمير رضي الله عنه العذْبة سببًا في دخول نِصْف أهل المدينة المنوَّرة في دين الله الحقّ.
وكلمة من امرأة مسلِمة حرَّة حرَّكت جيشًا، وجعلت خليفةً يَحكم أرضًا لا تغيبُ عنْها الشَّمس لا يهدأ ولا ينام: “وامعتصماه!”، تسعة حروف تجعل من عمّورية قاعًا صفصفًا!
ومَن أصدق من الله قيلاً: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [سورة إبراهيم:24-26].
فلا بدَّ أن تكونَ الكلمة والعبارة التي يتكلم بها الداعية شائقةً، ليِّنة هيِّنة، مُحبَّبةً إلى النفس، وأن يبتعدَ عن العبارة السيئة والقولِ الجافِّ، والكلمة الغليظة؛ لأن الداعية يتعاملُ مع قلوب الناس، والقلوبُ حساسةٌ، تأتي بها كلمة، وتطردها كلمة أخرى، ولهذا يقول الله عز وجل وهو يأمر موسى وهارون بالذَّهاب إلى فرعون لإبلاغ الدعوة، والله يعلمُ أن الكلمةَ اللينة أو القاسية لا تُفيد فرعون، فهو كافرٌ؛ لكنه يُبيِّن منهج الدعوة، فيقول: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله تعالى مِن أسباب تأليفه لسفره العظيم (صحيح البخاري) أنه كان في حلقة إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى وأن إسحاق قال كلمة، محفزًا طلابه لجمع الحديث الصحيح: “لو أن أحدكم يجمع كتابًا فيما صحَّ مِن سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم”.
كلمة قالها إسحاق فوقعتْ في نفس الإمام البخاري رحمه الله تعالى فشمَّر عن ساعد الجد، وواصل الليل بالنهار، وأصبح مشروع حياته؛ فصنف ذلك السفر والكتاب الذي انتشر في الآفاق، وصار أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى!
وهذا الإمام الشافعيُّ يقول: “كنتُ أول أمري مهتمًا بالشعر، فتمثلتُ بيتًا مِن الشعر عند كاتب مصعب الزبيري، فأخذ بيدي، وقال: أوتيتَ حظًا مِن الشعر يا شافعي، فأين أنت مِن الفقه؟ فوقع ذلك في قلبي!”.
قوة هذه الكلمة أخذت الإمام الشافعيّ مِن طريق الشعر وألقته في طريق الفقه؛ فصار مِن كبار علماء المسلمين، وليس في قول الشعر حُرمة، إذ الشعر كلام، والأصل في الكلام الإباحة، والشعر كالنثر، حُرْمَتُه وحِلُّه في مضمونه، ولكن لدينا آلاف الشعراء، وليس لدينا إلا شافعي واحد!
كلمة واحدة لم تُغير واقع رجل فقط، وإنما غيرت واقع أمة كاملة! يكفي فيه قول إمام أهل السُّنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: “كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس!”.
وذكر الإمام الذهبي إمام زمانه حفظًا، وذَهَبُ عصره معنى ولفظًا: أن سبب طلبه لعلم الحديث كلمة واحدة شحذت همته، وملأت قلبه وعقله، كلمة سمعها مِن معلمه الإمام البرزالي، قال الذهبي: “لما رأى الإمام البِرزالي خطِّي قال لي مستحسنًا: إنَّ خطك هذا يُشْبِهُ خَطَّ المُحَدِّثِين. فحبَّبَ اللهُ لي عِلْم الحديث”.
كلمة إشادة رقيقة، جعلت مِن الذهبيّ إمام أهل السُّنة في علم الجرح والتعديل، فكتب لنا “سير أعلام النبلاء”، و”ميزان الاعتدال في نقد الرجال”، و”المعين في طبقات المحدثين”، و”ديوان الضعفاء والمتروكين”!
وقد هذَّبه الحديث وجعله متواضعًا، ولمَّا ترجم لنفسه قال: “الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، يُثني عليه الناس خيرًا وربه أعلم به!”.
وهكذا فإن للكلمة تأثيراً عجيباً، ولا شك أننا جميعاً لا ننسى ذلك الشخص الذي شجعنا بكلمة صادقة والدًا كان أو معلمًا أو صديقًا؛ فكان لتشجيعه أثر عظيم في مسار حياتنا وما حققناه مِن إنجاز ديني أو دنيوي.
فيا أيها الوالد والمعلم والداعية، ويا أيتها الأم: انتبهوا إلى كلماتكم مع الناشئة، فرب كلمة شقّت لهم طريقًا إلى المجد والعلا، وكلمة أخرى ألقت بهم في مهاوي الردى على هامش الحياة.
نعم، إن هذا الجسد لدينا ليتأثر بالكلمة، بل حتى الماء يتأثر بالكلمة ويتأثر بها، لأن الله تعالى خلق كل شيء حي من الماء، فقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
وأجسامنا تتكون من 70 % من الماء، لذا فإن الكلمة تؤثر في أجسامنا إما سلباً أو إيجاباً، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) [رواه البخاري ومسلم].
وهذا العالم الياباني (ميساروا إيموتو) رئيس معهد هادو للبحوث العلمية بطوكيو قام بعمل بحث مذهل على تأثير الكلمات وترددها واهتزازها على جزيئات الماء، حيث قام بجمع ماء من أماكن متفرقة من العالَم ووضعها في أواني بكميات متساوية، وفوجئ أنَّ الماء يتأثر بالكلام الطيب، وتتوزع بلوراته وجزيئاته بشكل هندسي مذهل مكونة تجمعات بلورية جميلة، وعلى العكس عند تعرض الماء لكلام سيئ أو كلام عشوائي؛ فإن البلورات والجزيئات تترتب بأشكال عشوائية غير جميلة ولا مميزة.
وأخيراً: قد يسجن الانسان لكن لا تسجن الكلمة، فالكلمة حرة تتسلل بين الجدران والقضبان الحديدية وتسري بقوة لتخترق المسامع وتستقر في القلوب والعقول، وقد تكون الكلِمة شعرًا أو نثرًا، لا يهم؛ ولكن صدق قائلها وعظم مضامينها كفيلٌ بتغيير قناعات وقلب موازين وبناء واقع جديد في حياة شخص ما، وما أجمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا} [رواه البخاري].
فلا تستهينوا بالكلمة، وخاصة إذا كانت صادقة ومؤثرة ومعبرة؛ فإنها قوية تنطلق من القلب وتعبر كالرصاصة إلى قلوب الآخرين .

About the author

admin

Leave a Comment