الروح لا تشيب ولا تشيخ
بمجرد أن يصل الإنسان إلى سن الأربعينات أو الخمسينات مع تجاعيد وجهه وشعرات البياض في رأسه، إلا وتراه يتحدث عن كبر سنه، وكأنه وصل لنهاية العمر ومرحلة اللاعودة، يستسلم للانهيار وكأنه فقط ينتظر النهاية، على الرغم من أن الأمر ليس كذلك، فلربما تكون بدايته الحقيقية مع الحياة والنجاح في هذا السن، مع النضوج والحكمة.إن الإنسان نصفان: نصفه جسد، ونصفه الآخر روح، فجزء ظاهر وهو الجسد، وجزء خفي وهي الروح، ولكل منهما غذاؤه الخاص به، فالجسد يرمم وغذاؤه: الأكل والمشرب وغيره، أما الروح فلا ترمم وغذاؤها: الروحانيات والمعنويات وسلوك التهذيبات، وبما أن الجسد هو الجزء الظاهر فكلنا يبحث عن جمال وكمال هذا الجسد؛ ليأخذ نصيبه كاملاً من العناية والاهتمام، ويبالغ بعضهم في تدليل هذا الجسد حتى أضحى لا يكتفي بالقليل من العناية.في حين أننا أهملنا الجانب الروحي وهو الأجدر بالاهتمام والعناية، ولو وضعنا نصب أعيننا تجميل هذه الروح فحتما سينعكس هذا على كل تفاصيل حياتنا جمالاً وسعادةً وعطاء. ولذلك يقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله تعالى: «إياك أن تصدق بأنك كبرت في السن، فما جسدك إلا وعاء توضع فيه روحك، والروح لاتشيب ولا تشيخ، والروح من عالم آخر لا تشبه عالمنا بشيء، ولا يعلمُها إلا الله تعالى»، وهذا ما يؤكده المولى عز وجل في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].نعم، ليس للروح خلايا تشيخ وتشيب رغم الخريف، وبالتالي الكلمة لا تشيب، والإحساس لا يشيب، والعواطف لا تشيب، لذلك نرى أن الحُبّ لا يعرف تقدم السن، ولا يرتبط بالعمر؛ ولا يعرف الزمان أو المكان، بل يمثل الحب قلب الروح النابض.ونحن عادة لا نرى أو نهتم إلا بأمر الجسد، فاكتشفنا أن الجسد قد يشيخ دون الروح، كما في حالة مرض الشيخوخة المبكر الذي تظهر أعراضه قبل أن يبلغ المصاب سنته الثانية في مشهد غريب لروح طفل في جسد شيخ كهل.لذلك ابدأ بنفسك من داخلها واستشعر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) [رواه مسلم].فالاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على عمل الجوارح، لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال، وثواب الأعمال يكون بما انعقد عليه القلب من إخلاص وحسن نية. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، ولم يقل: لتسكنوا معها، إذ هناك فرق كبير بين (إِلَيْهَا ومعها) تسكنوا إليها إشارة إلى السكنى الروحية، ورحم الله تعالى عبد الغني النابلسي حين قال:سكن الفؤاد فعش هنيئاً يا جسد هذا النعيم هو المقيم إلى الأبدوجعل بينكم (مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) وهي مفردات ومعاني تتوج روح الحُبّ، أما (معها) فيمكن أن تُسمى سكنى “عقارية” أي يمكن أن تسكن مع أي إنسان في أي مكان، وأنت قد تكون لا تحبه ولا تطيقه.فإياك أن تحبس روحك في إطار جسدك، حلّق في عالم التفاؤل والأمل وثق بالله تعالى في كل خطوة تخطوها، ساعد الجميع وامنح الحب وازرع الخير في كل مكان، عش بقلب طفل، واجعل تصرفاتك كلها روحانيّة، ولا تربطها بتقدم الزمن والعمر وهمومه؛ لأنها ليست من صفات الروح.لذلك قال أحد الحكماء: إني أُحب معلمي أكثر من والدي، وعندما سُئل عن ذلك، قال: لأن والدي اعتنى بجسدي، فقد وفَّرَ له الكساء والطعام والشراب، أما المعلم فقد ربى روحي، والجسد يفنى، أما الروح فتبقى.قال الشاعر الحكيم أبوالفتح البستي:يا خادِمَ الجِسم كمْ تشقى بخِدْمَتهِ لِتطلُبَ الرَّبحَ في ما فيه خُسْرانُأقبِلْ على النَّفسِ فاستكمِلْ فضائلَها فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُأما راحة الروح فبلقاء الله تعالى، إذ لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكثير منا يفهم هذه العبارة خطأ، إذ لا يشترط أن يكون اللقاء بعد الموت، فالعلم لقاء، والذكر لقاء، والصلاة لقاء، والصدقة لقاء، والمُناجاة لقاء، وقيام الليل لقاء، وبر الوالدين لقاء، وقراءة القرآن لقاء، وصلة الأرحام لقاء، وزيارة المريض لقاء، وتفريج كربات المُسلمين لقاء، فهل أدركنا كم فاتنا من فرص للقاء؟!قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى.
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY