بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله خليل التميمي
بسم الله الرحمن الرحيم أحكام #الفلوس و #العملة_الورقية و #النقود_الحقيقة في المذاهب السنية الأربعة .
الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و السلام على خير الخلق و الأنام سيدنا محمد رسول الله و على آله و صحابته و من تبعهم بإحسان.أما بعد فإن القرن الماضي كان حافلا بالفتن و الضلالات و البدع و المصائب التي حلت بساحة ملّة السنّة المحمدية ، و هي كثيرة بحيث لا يكاد يحصيها العادُّ فكيف بأن يحيط بها و بشرورها ، إلا أنها لا تخفى و لا تكثر على فهم من أورثه الله تعالى العلم المحمدي و رزقه استيعاب قانون الله الحق الذي نقله لنا النبي صلى الله عليه و سلم و من بعده أئمة الهدى الأربعة أبو حنيفة و أحمد و مالك و الشافعي و من تبعهم .إن من أعظم هذه الفتن و أخطرها و أكثرها شرا فتنة العُملات التي عمّت و طمّت حتى لم يخل من ضررها بيت و لا إنسان و حتى لحق شرها بالدواب و نشرت الفساد في البر و البحر و الجو ، و حارت الأفهام في متاهاتها و ضاعت بسببها الأعمار و أهلكت النفوس البريئة و شنّت الحروب و دمرت بلدان و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .هذه الفتنة ظهرت أولا في بلاد أوربة و أمريكا ، ثم امتد شرها إلى بلاد الإسلام مع دخول الغزو الأوربي إلى حواضر بلاد الموحدين و إسقاطهم لخلافة العثمانيين و لحكم سائر ملوك المسلمين .كانت النقود في كل ممالك الدنيا تقريبا مصنوعة من معدنين ؛ الذهب و الفضة ، و هذان المعدنان هما وحدهما ما يطلق عليه مطلق وصف “النقود” ، و يعتبران وحدهما الأثمان العيارية المعتبرة في قانون الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم .و لأن الوحدات النقدية المصنوعة من هذين المعدنين كانت ثمينة و غالية و نادرة فإن قيمة كل منها تفوق بكثير حاجة المتسوق المرتاد للأسواق لابتياع مقتنيات الحياة اليومية ، كالطعام و الشراب و الملبس و المنظفات و الآنية و غيرها ، فاحتاج الناس إلى تجزئة هذه الوحدات النقدية الذهبية و الفضية بحيث تناسب الأجزاء الصغيرة في قيمتها ثمن أصغر قطعة تباع في السوق ، كرغيف خبز واحد أو قطعة صابون أو دبوس أو إبرة أو كوب من الخزف ، فإن أردنا أن نحقق هذه الغاية باستعمال النقدين سيكون علينا أن نصنع نقودا ذهبية و فضية صغيرة جدا بحيث لا تكاد تراها العين ، و هذا غير ممكن بحال من الأحوال .لحل هذه المعضلة اخترع الناس نوعا ثالثا رخيصا من الأموال يناسب في قيمته أصغر المقتنيات اليومية ، و أطلقوا عليه مجازا صفة نقود و أسموه “الفلوس” ، و هو قطع معدنية تشابه في الشكل و الوزن النقود الفضية و الذهبية إلا أنها مصنوعة من المعدن الذي يلي الفضة في ترتيب القيمة و الندرة و رواج الإستعمال و هو “البرونز” و هو معدن مصنوع أساسا من خليط النحاس مع معادن أخرى لمنع الصدأ و من أجل إعطاء الفلوس طول الديمومة و السكة ؛ و معلوم أن النحاس يدخل بنسبة قليلة جدا في سبك النقود الذهبية و الفضية لمنحها القسوة اللازمة لتبقى على شكل واحد صلب و لا تضيع بالحت عندما تتداولها الأيدي بكثرة . لتكون هذه الفلوس “البرونزية” ذات قيمة و قبول فقد تم سك إسم أو شعار أو صورة رأس الدولة التي صنعتها و سمحت بتداولها ، أو تحمل رسم ختم الصراف الذي أصدرها . كثيرا ما كانت قيمة الوحدة النقدية من الفلوس تزيد على قيمة وزنها من النحاس ، بسبب أنها مسكوكة و مصنوعة ، و عادة ما يكون هذا لفترة وجيزة تسمى “الرواج” و ذلك لإقبال الناس على التداول بها و قبولها ، ثم تعود إلى ثمن وزنها من النحاس عندما تكسد و يترك الناس التعامل بها لصالح نوع آخر من الفلوس بسكة جديدة و حجم جديد ، و هكذا إلى يومنا هذا .أحكام الفلوس في الإسلام :أجمع فقهاء السنة على أن الفلوس لا تعتبر نقودا عيارية و لا أثمانا و لا تشترك في أحكامها مع النقدين الذهب و الفضة ، و إنما تعتبر نوعا من أنواع البضاعة التجارية المتداولة بيعا و شراء ، فهي معادن و المعادن سلع تجارية ، و السبب في هذا يكمن في أن قيمة هذه الفلوس متأرجحة بشكل كبير ، ففي رواجها تتضاعف قيمتها جدا مقابل الذهب و الفضة ، و عند كسادها تنهار قيمتها جدا حتى تصبح كالعدم ، و هذا لا يكون أبدا في حال الذهب و الفضة . معنى تقرير الفقهاء هذا : أن الفلوس ليست ضمن أصناف المواد المعتبرة في “ربا الفضل” أي أنه لا يحرم تبادلها متفاضلة عاجلا أو آجلا لكن بشرط أن تكون غير متطابقة الصنف ، و بالتفصيل فإن الذهب المصنّع و الذهب غير المصنّع لهما في قانون الإسلام نفس الحكم ، فلا يجوز أن يباع الذهب المصنّع بأكثر من وزنه من الذهب غير المصنّع ، و لا يجوز أن يباع الذهب المصنّع بمثل وزنه من الذهب غير المصنّع مؤجلا ، أي بالدين و لو لساعة ، و إنما يجب قبض الذهب بالذهب حالا ، و يجوز بيع الذهب بأضعاف وزنه من الفضة و لكن بتبادل فوري و لا يجوز فيه التأجيل ، أما الفلوس فيجوز أن تشتري فلسا من نوع ما بأضعاف وزنه من فلوس من نوع آخر ، و يجوز أن يكون بالأجل ، أي تقبض المشترَى و تؤجل دفع المقابل إلى أجل ، و هذا جائز عند الجمهور و مكروه عند المالكية .تنبيه هام جدا : زعم بعض المنشقين عن الملة المحمدية من أدعياء الإسلام و إتّباع الأئمة الأربعة و هي فرقة تدعى “الأحباش” زورا و بهتانا أن إقراض الفلوس بمثلها و زيادة إلى أجل مسمى ليس من الربا ، و ألبسوا على أتباعهم و على الجهلة مزاعمهم هذه بخلط استثناء الفلوس من ربويات الفضل ، و هذا زعم فاجر و افتراء على الله تعالى ، ذلك أن ربا النسيئة يجري في كل شيء بداية من الماء و انتهاء بالذهب و الفضة مرورا بالفلوس و غيرها من سائر ما ينتفع به ، و الإجماع منعقد على أن بيع فلس من نوع بفلس و زيادة من نفس النوع عاجلا أو آجلا عمل محرم و يدخل تحت ربا النسيئة ، أي ربا التأجيل ، و هو النوع الثاني من الربا و هو ما يعرفه الفقهاء بـ “كراء القروض” أو القرض الذي جر نفعا . مما ورد آنفا نجد أيضا أن الجمهور من الفقهاء أجاز شراء الفلوس بالذهب أو العكس نقدا أو بالأجل (بالدين) ، و ذلك لأن الفلوس عرض من عروض التجارة و سلعة من السلع غير الربوية و مستثناة من شرط الآنية في البيع و الشراء و السّلَم .أما عن أحكام الزكاة فلقد اتفق الأئمة الأربعة على عدم اعتبار الفلوس نقودا ، و بالتالي فليس فيها زكاة ابتداء باحتساب قيمتها مجردة كما هو الحال مع النقود (الذهب و الفضة) ، و لكن باعتبار أنها بضاعة لها قيمة و تباع و تشترى فيُحصى ما رُصد منها للعمل في التجارة و المصالح المالية الصناعية و الزراعية و تجب زكاته باحتساب قيمته في السوق كونه من عروض التجارة التي تجب فيها الزكاة باتفاق .أما الفلوس التي يرصدها الناس لنفقات حياتهم بحيث لا يرتجى من هذه النفقة عائد ربحي فلا زكاة فيها عند فقهاء أهل السنة و هذا عام في كل السلع و البضائع ، خلافا للذهب و الفضة فإن المسكوك منهما أو المسبوك في سبائك أو المصوغ حليا تجب زكاته في حد ذاته ابتداءً.تنبيه هام جدا : تزعم فرقة الأحباش آنفة الذكر زعما فاجرا آخر و هو أن الفلوس مستثناة تماما من الزكاة ، و هذا افتراء على الله فلقد انعقد الإجماع على أن الفلوس تعتبر عرضا من أعراض التجارة ، أي تعتبر سلعة و ليست ثمنا ، و بالتالي تجب فيها الزكاة إن بلغت قيمتها النصاب و كانت معدة للتجارة و الصنائع . العملة الورقية : ثم ظهرت العملة الورقية في بلاد المسلمين على يد الغزاة النصارى الذين فرضوا على الناس التعامل بها ، و استمر ضغط سلطات الغزو الأوربي ثم ضغط نوابها و ولاتها على بلادنا من بني جلدتنا الذين ارتدوا عن دينهم ، حتى تم سحب الذهب و الفضة من التداول كنقود و حل محلهما الورق ، فهل للورق حكم النقود أو حكم الفلوس ، أم له حكم آخر في شرع الرحمن ؟.لمعرفة الحكم لا بد من النظر في أصل و تاريخ نشوء التداول بهذه العملات و هو ينقسم إلى ثلاثة مراحل ، المرحلة الأولى :بدأ تداول العملة الورقية في أوربة و أمريكا ثم في بلادنا على أنها صكوك (إيصالات دَيون) ، كل واحد منها كتب عليه : يتعهد بنك إنكلترا بدفع جنيه ذهبي واحد لحامل هذا الصك . ثم انتشرت في أوربة و أمريكا و حلت تدريجيا محل الذهب و الفضة ، لكنها بقيت ردحا من الزمن إيصالات ديون يمكن أن يقبض حاملها قيمتها المكتوبة عليها من الذهب بمجرد أن يعيدها حاملها إلى البنوك و المصارف أي إلى المقترضين ، فالصك المسمى بالجنيه الورقي كانت تتم مبادلته في البنك بجنيه ذهبي بوزن و عيار ثابتين ، و يتم إتلاف الصك الورقي بمجرد قبضه من البنك نظرا لإنعدام قيمته لدى المصرف ، فالجنيه الذي كان الصك ضمانة لسداده قد استلمه مُقرضه و برئت ذمة مالكي المصرف من هذا الدّيـْن ، فلماذا يحتفظون بصك الدّيـْن ؟. و كذلك صك الفرنك الفرنسي أو السويسري أو أي من الصكوك التي أطلق عليها إسم “العُــملـة” باللغات الأوربية ، أي ما تم التوافق على العمل به و تداوله ، و لم يسميها الأوربيون بلغاتهم عند ذلك الحين “نقود” لأنها في الواقع صكوك ضمان لدَيونٍ هي “النقود” أي الذهب و الفضة ، هذه العملات الورقية كانت متداولة خارج البنوك و المصارف ، و ينتهي التداول بها عندما تصل إلى خزَنَة المصارف.إذا لم تكن هذه العملات في أصل إيجادها فلوسا ، و إنما كانت صكوك ديون ، و كان يجري البيع و الشراء بها وفق قوانين أوربة و هي قوانين تحل الربا و بيع الديون ، و معلوم أن بيع الديون لغير الغارم محرم في قانون الإسلام و يعتبر من أكبر الكبائر ، و إذاً فإن تداول هذه العملات الورقية كان محرما في ديننا منذ أن وجدت .اعتبر بعض فقهاء المذهب الحنفي التعامل بالعملة الورقية جائزا على اعتبار أنها صكوك تضمن ودائع من نقود ذهبية أو فضية ، و ليس على اعتبار أنهاصكوك ديون ، فأجازوا البيع بها نقدا و مقابل سلع أو منافع مشروعة على أساس أن هذه الصكوك يمكن نقلها من شخص لآخر على أنها نوع من حوالة الودائع ، أي أن زيدا أودع عند عمرو مالا و كتبا صك بالوديعة ، و أذن عمرو لزيد إذنا مفتوحا بإحالة الوديعة إلى من يشاء ، فاشترى زيد منفعة أو سلعة من عُبيدٍ و أعطاه صك وديعة عمرو الآنف ، و قبل عبيدٌ الصك و سلّم زيداً المنفعة ، ثم أخذ الصك إلى عمرو و استرد منه الوديعة بحوالة من زيد .هذا الاعتبار باطل من أساسه ، فالمصارف و البنوك لا تستقبل الودائع النقدية ، و إنما تقترض النقود من الزبائن مقابل الرّبا ، و لا تجد في اللغة القانونية لأية دولة غربية عبارة “ودائع مصرفية” أو “ودائع بنكية” ، و إنما توجد عبارات “ديون مدفوعة” أي للبنوك و المصارف و عبارة “قروض” أي ديون على زبون لصالح البنوك و المصارف ، لكن شياطين الإنس من أعوان الغزاة الأوربيين المستشرقين اخترعوا عبارة “وديعة مصرفية” ليموهوا على العوام و الجاهلين بحقائق هذه المصارف و أنها مجرد مجموعة من المرابين المخادعين ، فينخدع العامي المسلم و يستجيز إقراض نقوده لهذه المصارف ظنا منه أنه إنما يودعها في ذلك المصرف على سبيل الأمانة ، و في الواقع هو يقرض أمواله لمالكي هذا المصرف مقابل ربا أو بدون ربا ، و ذلك ليقوم المصرف بإقراض هذه الأموال بالربا الفاحش لزبائن آخرين .إذاً نحن لا زلنا نتحدث عن العملات الورقية كونها فقط “صكوك تضمن قروضا” بالنقود الذهبية أو الفضية . أولا : يتحقق من هذا باتفاق أيضا أن هذه العملات (الصكوك) ليس فيها زكاة مهما بلغت قيمتها ما لم تتم تصفيتها و إستلام عين الذهب أو الفضة التي تضمنها ذلك أن الإجماع وقع على أن زكاة المال المُقرض حق على مقترضه و ليست فرضا على الـمـُقرض، و حتى إن قلنا (تعسّفا) أن النقود الذهبية و الفضية التي تضمنها “العملات” أو الصكوك الورقية توجد في المصارف على سبيل الوديعة (الأمانة) فلا سبيل أيضا لإيجاب الزكاة فيها إلا عندما يقبضها أصحابها ، و لا يجزئ طبعا إخراج الزكاة على هيئة صكوك دَين فالأمر ممتنع لوجوه كما هو واضح لأن الواجب هو تمليك عين الزكاة لمستحقها ، و ليس تسليمه صك دين بقيمتها ليقوم باستقضائه .ثانيا : لا يجوز أبدا السّلَم بهذه الصكوك (العملات) لأنه بيع آجل بآجل ، و أيضا لا يجوز أن يباع أي شيء بالأجل و أن يكون المقابل هو هذه (العملات) الصكوك ، لأنه بيع دين بدين ، فثمن المباع دَين في نفسه ، و إبداله بصك دين هو شراء دين بدين و هذا باطل قولا واحدا .و أيضا لا يمكن أن تكون هذه الصكوك (العملات) قروضا ، لأنها أصلا ديون لم يتم تحصيلها ، فكيف يمكن أن تعتبر قرضا ، و معلوم أن القرض مال مقبوض يدفع إلى المقترض ، إذ لا يمكن أن تقرض عمروا دينا لك على زيد !.و في المحصلة فإن تداول العملة الورقية على أنها صك لدين نقدي (ذهب أو فضة) يعتبر عملا محرما و باطلا شرعا ، و يصنفه بعض الفقهاء على أنه ربا لأن بيع ما لم يتم قبضه ، و يدخل تحت تصنيف بيع الصكاك المذكور في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن تحريم بيع الصكاك و اعتباره من الربا، و البعض يصنفه تحت بند الغرر ، إلا أن الجميع متفقون على بطلانه .مما ورد آنفا يتضح الخطأ الفادح الذي وقع به بعض المعاصرين من الأحناف و غيرهم ممن زعم أن العملة الورقية صكوك ودائع (أمانات) لنقود ذهبية أو فضية و أجازوا على هذا الأساس التعامل بها على أنها “نقود” أي بمثابة الذهب و الفضة . المرحلة الثانية : تداول العملات الورقية على أنها “صكوك تضمن ديونا بالفلوس” :عندما ظهرت العملات الورقية في أوربة و أمريكا على هيئة صكوك تضمن ديونا من الذهب و الفضة ، و تم التعامل بها على أساس أنها نقود ذهبية و فضية كانت قيمة هذه الصكوك مماثلة في التعامل لقيمة الذهب و الفضة ، و بالتالي فإن الجنيه الورقي كالجنيه الذهبي لا يمكن للمشتري أن يتعامل به في السوق كوحدة نقدية يمكن أن تتجزأ لتُشترى بها الإحتياجات الصغيرة ، كالإبرة و علبة الثقاب و الرغيف ، و لهذا بقيت الفلوس المعدنية موجودة و متداولة بين أيدي الناس ، إلا أن الدول الأوربية ضبطت سعر الفلوس المعدنية بتسعيرة ثابتة مقابل النقود الفضية و الذهبية ، فمثلا الجنيه الذهبي كان يساوى ألف فلس صغير من البرونز أو النحاس ، حتى لو كانت قيمة وزن هذه الفلوس من المعدن الذي صنعت منه أقل بكثير جدا من قيمة الجنيه الذهبي ، إنما فرضت التسعيرة زيادة على قيمة المعدن بسبب الصكة الحكومية أو المصرفية على الفلوس ، و بهذا فإن المشتري حين يقدم جنيها ذهبيا أو جنيها ورقيا للبائع ليشتري سلعة قيمتها مائة فلس ، فإنه سيحصل على سلعته و سيرد إليه البائع تسعمائة فلس ما نعرفه اليوم اصطلاحا بـ “بقية الجنيه” .بعد عقود من التداول عجزت البنوك عن سداد قروضها من الذهب مقابل صكوك الدين التي تسمى “العملات الورقية” ، فتدخلت الحكومات الأوربية و فرضت التعامل بالعملات الورقية تحت طائلة العقاب الشديد لمن يرفض هذا التعامل و أبقت على الفلوس كأجزاء لهذه العملات ، بقي الحال كما كان آنفا بمعنى أن المشتري يقدم للبائع جنيها ورقيا ليشتري ما قيمته مائة فلس ، فيقبل البائع الجنيه رغم علمه بأن هذا الجنيه لم يعد نائبا عن جنيه ذهبي و يرد للمشتري تسعمائة فلس “بقية الجنيه”. بهذه القرارات منعت حكومات أوربة استبدال الوحدات النقدية (الذهب و الفضة) بصكوك العملات الورقية بشكل نهائي و أوجبت على التجار قبول العملات الورقية تحت طائلة السجن و التنكيل ، فصارت هذه الصكوك ضمانا لقروض هي “الفلوس” المصنوعة من غير الذهب و الفضة ، و جلها صنعت من النحاس أو النيكل أو البرونز ، و كان يمكن لأي كان أن يحمل ما شاء من العملات الورقية و يذهب إلى المصارف ليستبدلها بقيمتها من الفلوس المعدنية التي تم صكها بسخاء في ذلك الحين لعظم الإحتياج إليها بالنظر إلى ضخامة قيمة العملة الورقية.هذه الصورة لم تغير شيئا من حقيقة العملة الورقية ، فلقد بقيت صكوك ديون على المصارف ، إلا أنها صكوك لديون بالفلوس و ليست صكوكا لديون بالنقود ، و هذا لا يغير شيئا من أحكامها في المرحلة الأولى ، إلا أن الفلوس المعدنية بقيت أحكامها على ما أسلفنا من أحكام الفلوس التي أجمع عليها الفقهاء .المرحلة الثالثة : الفلوس الورقية : ثم بدأت المصارف و البنوك بإصدار عملات ورقية و طبعت عليها صورا و رسوما و منحت كل فئة من هذه العملات قيمة مختلفة ، فطبعت ورقة من فئة الجنيه مثلا و ورقة من فئة الجنيهين و أخرى من فئة مائة جنيه ، و بهذا لم تعد المصارف تحصي الفلوس النقدية و لا تبالي بأن يوجد في السوق ألف فلس معدني مقابل كل جنيه ورقي ، بل تعدت المصارف هذا و طبعت عملات ورقية قيمتها أقل من جنيه أو فرنك أو غيرهما ، أوراق بقيمة خمسين فلسا أو مائة فلس أو خمسمائة فلس أو مائة سنتيم إلخ .هذه المرحلة أنهت اعتبار العملات الورقية صكوكا لديون من أي نوع ، فلقد صارت قيمتها هي التعارف على اعتبارها و التعامل بها و الرواج في الأسواق ، و هذا مشترك بينها و بين الفلوس ، إلا أن الفقه المالكي فقط من بين المذاهب الأربعة قاس هذه العملات على الفلوس بنص عن الإمام مالك رضي الله عنه اعتبر فيه ما سكه الناس و تعارفوا على قيمته معتبرا من الفلوس و لو كان جلودا مسكوكة ، أي عليها طبعة سلطانية أو مصرفية بينما لا يوجد عند الجمهور أي مخرج لاعتبار العملة الورقية فلوسا فكيف باعتبارها نقودا ؟!.و بناء على كل ما أسلفنا نجد أن اعتبار العملات الورقية فلوسا قياسا على الفلوس المعدنية مسلك ضيق غير معتبر عند المذاهب الأربعة السنية إلا على قول لمالك مروي عنه في المدونة ، و اعتبارها نقودا كالذهب و الفضة أمر مستحيل في الشرع المحمدي ذلك أن الفلوس الحقيقية المعدنية ذات القيمة في ذاتها (وزن المعدن) لم تعتبر نقودا و لا كالنقود ، فكيف بأوراق لا قيمة لهذا في ذاتها !؟.و عليه فإن هذه العملات إن اعتبرها الفقهاء على قول مالك في المدونة فلوسا فإن أحكام الفلوس الآنفة الذكر تجري عليها ، فهي ليست من ربويات الفضل فيجوز أن تباع متفاضلة و بالأجل بشرط عدم تطابق جنسها ، أي يجوز بيع و شراء جنيهات بدولارات أو بفرنكات متفاضلة في العدد ، أي جنيه بعدة دولارات أو ريالات ، و يجوز أن يشترى بها الذهب و الفضة نقدا و بالتقسيط أو بالأجل ، و لا يجوز فيها ربا النسيئة أو أجرة الدين ، أي أن يقرض زيد عمروا خمس جنيهات ورقية لمدة معينة على أن يستردها خمس جنيهات ورقية و فوقها حبة حنطة أو ذرة رمل ، و هذا يعني أن إسلافها للبنوك (فتح حساب بنكي بها) أمر محرم و عون على الربا لأن هذه البنوك ستقرض الناس بالربا ما استلفته من زبائنها .و بالتأكيد ليس فيها زكاة إلا أن تكون معدة للتجارة ، فمن ادخر منها ليشتري دارا أو عقارا أو مركبة لنفسه أو عياله أو ما يقيم به معاشه من طعام و كسوة و دواء و كراء فلا زكاة عليه في هذه المدخرات و لو بلغت ما بلغت .أضرار هذه العملات : هذه العملات الورقية في الواقع عذاب نازل على على سائر الأمم التي ابتليت بالغزو الأوربي عموما و من ضمنها أمم الإسلام كلها ، لأنها تعمل عمل المضخة التي تمتص جهود و سعادة و ثروات كل هذه الأمم و تنقلها إلى البلاد الأوربية و الأمريكية الشمالية و غيرها من الدول التي تسمى دولا غربية ، فكيف تعمل هذه المضخة ؟!.عندما سيطرت جيوش الغرب على سائر أمم الأرض فرضت عليهم تسليم ما يملكون من نقود ذهبية و فضية إلى سلطات و مصارف أنشأتها هذه الجيوش ، و بدلا من النقود وزعت المصارف عملات ورقية على الناس كما حصل في بداية أمر هذه العملات في أوربة لكن هذه الصكوك لم تكن أبدا قابلة للتبديل بنقود فضية أو ذهبية ، إذ تنكرت هذه المصارف لتعهداتها بدفع النقود الذهبية و الفضية التي جمعتها من الناس مقابل هذه العملات ، و فرضت هذه السلطات على التجار قبول هذه العملات أثمانا لبضائعهم ، و منعت تماما التداول بالنقود الذهبية و الفضية ، و صارت هذه العملات فلوسا ورقية كما أسلفنا ، و بما أن دول الغرب تحتكر الصناعة الحديثة و منتوجاتها المصنوعة و المزروعة فلقد استغلت هذا الإحتكار لتجعله أيضا احتكارا لقيمة العملات التي تطبعها الأمم الخاضعة للغرب و ذلك بأنها فرضت على سائر الأمم قانونان هما : القانون الأول :لا تستطيع أية دولة من غير الدول الغربية أن تطبع أية وحدة من عملتها المحلية الورقية دون أن تكون قد أدخلت في خزانتها من العملات الورقية الغربية ما يساوي قيمة هذه العملة المطبوعة ، بمعنى الجنيه المصري مثلا لا يمكن أن يُطبع إلا أن يكون المصرف المصري الحكومي قد حصل على ورقة عملة لجنيه بريطاني أو فرنك فرنسي أو دولار أمريكي أو مارك ألماني .و لفرض هذا القانون أدخلت الدول الغربية مبالغ كبيرة من عملاتها في خزائن ما تعرف بـ “المصارف المركزية” للدول المحكومة بسلطة الغرب و منها الدول العربية و الإسلامية جميعها ، و قامت بطباعة عملات ورقية محلية للدول المحكومة تساوي كل وحدة منها قيمة ثابتة من العملات الغربية ، مثلا كانت تطبع ورقة من عملة الليرة السورية الواحدة إذا دخلت لخزينة المصرف المركزي السوري ورقة من عملة الفرنك الفرنسي الواحد ، أو تطبع خمس أوراق من عملة الليرة السورية الواحدة إذا دخلت لخزينة المصرف المركزي السوري ورقة واحدة من فئة الجنيه البريطاني الواحد ، و هكذا . القانون الثاني :على جميع الدول التي تشتري احتياجاتها من البضائع المصنعة و الآلات و المحاصيل و الأدوية و غيرها من أية دولة في العالم أن تدفع ثمن هذه المشتريات بالعملات الورقية الغربية ، و فرضت طريقا واحدا لنقل العملات التي تُدفع مقابل هذه المشتريات هو “المصارف الغربية” ، و هذا يعني بداهة أنها فرضت على سائر الأمم أن تبيع بضائعها للدول الأخرى بالعملات الورقية الغربية حصرا .فصار من غير الممكن أن تستعمل أي من هذه الأمم عملاتها الورقية الخاصة لشراء البضائع من الدول الأخرى ، و إذا سيتعين على هذه الأمم أن تبيع منتجاتها إلى الدول الأخرى بعملات ورقية غربية ، حتى تقدر على إعادة استعمال هذه العملات الورقية الغربية الواردة لشراء احتياجاتها التي لا تنتجها من أسواق العالم .بهذا صار الحد الأدنى لأسعار كافة السلع في العالم يحدد بالعملات الورقية الغربية حصريا ، علما أن عملات الأمم غير الغربية لا قيمة لها بالعموم خارج أراضي هذه الأمم . بعد أن طبعت عملات الدول العربية و الإسلامية صارت قيمة هذه العملات تحدد بالطريقة التالية :النمو و الرواج : تستعمل الدولة العربية أو الإسلامية ما يوجد في خزينتها من العملات الأوربية لشراء احتياجاتها من الأسواق العالمية ، فمثلا لو أن دولة عربية تملك ألف جنيه بريطاني و طبعت مقابله ألف جنيه عربي من عملتها فإن هذه العملة العربية لا يمكن أن تداولها في الأسواق الأوربية ، فتشتري هذه الدولة احتياجاتها من بضائع العالم الخارجي بألف جنيه بريطاني ، و يبيع هذا البلد العربي منتوجاته بألف و مائة جنيه بريطاني ، فتعود إلى خزينة هذا البلد الألف جنيه الأولى التي أدخلتها الدولة الغربية إلى خزينتها ، و هي قيمة الألف جنيه المحلي الطباعة ، و تقوم الدولة العربية بطباعة مائة جنيه محلي مقابل المائة جنيه بريطاني زيادة دخلت إلى خزانتها ، و هكذا يصبح مجموع الجنيهات المحلية الطباعة ألفا و مائة جنيه و يبقى الجنيه المحلي يساوي في قيمته جنيها بريطانيا .الإنكماش و الكساد : في المقابل لو أن الدولة العربية اشترت بالألف جنيه بريطاني التي في خزينتها بضاعة من أسواق الخارج ، ثم باعت هذه الدولة العربية منتوجاتها بخمسمائة جنيه أوربي ، فإن قيمة الجنيه المحلي الذي يوجد في داخل هذا البلد و بين أيدي سكانه تصبح فقط نصف جنيه بريطاني و يصبح حاملوه غير قادرين إلا على شراء نصف احتياجاتهم سواء من بضائع البلد أو من البضائع المستوردة ، لأن بضاعتهم المنتجة في بلادهم بأيديهم قد تم تحديد سعرها أيضا وفقا للسوق العالمي و قياسا على العملات الغربية ، و لن ينخفض سعرها داخل البلاد تحت الحد الأدنى من سعرها خارج البلاد ، لأن هذه البضاعة سيكون معظمها معداً ليباع خارج البلاد من أجل الحصول على عملات غربية .الواقع أن هذا المثال المبسط جدا هو النظام الذي يحكم قيمة العملات الورقية في بلاد العالم كله ما عدا البلاد الغربية ، و لهذا نجد أن قيمة العملات الورقية للبلاد العربية و الإسلامية تنخفض باستمرار مقابل قيمة العملات الغربية ، هذا عدا عن الإنخفاض المستمر لقيمة العملات الورقية الغربية نفسها بسبب نظام ربا النسيئة الذي تطبع على أساسه ، و هذا أمر يطول شرحه جدا . و لهذا تجد أن الناس في بلاد العرب و الإسلام يتعبون و يجهدون أعمارهم و يدخرون هذه الجهود في عملات بلادهم الورقية ، ثم يفقدون في كل لحظة من قيمة جهودهم و مدخراتهم من العملة الورقية ما الله به عليم ، و تجد المرء يمضي عقودا لجمع ثمرة تعبه ليشتري دارا أو مركبة ، و كلما اجتمع عنده مبلغ من عملات بلاده يجد أن حاجته التي يدخر لشرائها قد ارتفع سعرها فلا يقدر على شرائها ، ليعود إلى الكد ليجمع الفرق اللازم بين مدخراته و ثمنها ، ثم و بعد مدة يجد أن هذا الفارق قد زاد رغم أن مدخراته قد زادت ؛ فلقد ارتفع سعر حاجته المنشودة مجددا ، إن عملات البلاد العربية و الإسلامية لا تشتري بها في كل يوم إلا ما قيمته أقل مما كنت تشتريه بها في اليوم الذي قبله ، فإن هبطت أسعار سلعة من السلع قياسا لهذه العملات فلمجرد برهة بسيطة ثم تعود للصعود .فبأي حق أو عقل أو قياس عقلي أو ديني يجوز أن تعتبر هذه العملات نقودا كنقود الذهب و الفضة ؟ و أن يفتى بالتعامل بها كما يتم التعامل بنقود الذهب و الفضة ؟ إن العملات الغربية كما شرحنا آنفا لا تكاد تنطبق عليها أوصاف الفلوس المعدنية إلا بتحكم و قياس على أضيق مجال ، فكيف بالعملات العربية و غيرها من عملات البلاد الخاضعة لهيمنة الدول الغربية ؟.و كيف نفتي بوجوب الزكاة على مدخرات تنخفض قيمتها و يتم نهبها في كل لحظة و هي باقية بذاتها في جيوب أصحابها البؤساء ؟.إن اعتبرنا تمحلا و تحكما و تجاوزا أن العملات الورقية العربية و الإسلامية فلوس كالفلوس المعدنية ، و ليست كذلك بحال ، فإنه تسري عليها أحكام الفلوس آنفة الذكر .فإن اعتذر البعض بعموم البلوى و أن إطلاق الحكم الشرعي الصحيح على هذه العملات سيقضي على دفع الزكاة ، فإننا نقول لهم ، إن الحفاظ على فريضة الزكاة يكون بتحريض المكلفين بأدائها كالتجار أصحاب البضائع الوافرة و المزارعين و أرباب المواشي و هؤلاء هم المعنيون أولا بالزكاة ، و لا يكون بترك هؤلاء الأثرياء و الجري وراء الناس البؤساء الذين لم يكلفهم الله بأداء الزكاة لنتمحل لهم تكليفا لم يكتبه الله عليهم و نفرض عليهم أحكاما صارمة لم يكلفهم الله بها و نضيق عليهم ما وسعه الله و نزيد بلاءهم المقيم بلاءً فوقه .هذا و أصلي و أسلم على من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين و على آله و سائر صحبه و من تبعهم إلى يوم الدين .
ضمن سلسلة : مع الحدث
مع تحيات كلية الإدارة والإقتصاد وكلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم الدراسات الإسلامية
جامعة أجيال وتكنولوجيا
GTU – UNIVERSITY GENERATIONS AND TECHNOLOGY